كانت أزمة الفراغ في منصب رئاسة الجمهورية اللبنانية، ولا تزال، أكبر من قدرة الوطن الصغير والدولة الضعيفة على التحمل، فجاءت مصيبة الجنود الذين خطفتهم «جبهة النصرة» وتوابعها في جرود بلدة «عرسال»، على الحدود الفالتة مع سورية، لتعمم القلق والحزن والغضب على كل المناطق والمواطنين.
وإذا كانت أزمة الفراغ الرئاسي من صنع محلي قبل أن تتحول الى قضية «مُضافة» على جدول اهتمام الأطراف الإقليمية والدولية، فإن مصيبة عرسال هي من صنع الفوضى السياسية المحلية التي يتنازع أقطابها المبادرات ثم يتبرأون من المسؤولية والنتائج.
في البدء كان من الممكن حصر المصيبة في مكانها ثم الإسراع في اتخاذ القرارات التي تحفظ سلامة الجنود المخطوفين، حتى لو جاءت الحيثيات من خارج القوانين. ذلك أن الجهة الخاطفة ليست دولة، ولا هيئة شرعية، إنما هي منظمة إرهابية خارجة عن كل القوانين والشرائع.
ثم إن الثمن الذي كان مطلوباً للتسوية كان موجوداً لدى السلطة اللبنانية، ولا يزال موجوداً، وهو في السجون التي تحوّل بعض أجنحتها شققاً مزوّدة كل وسائل الاتصالات التقنية المفتوحة على الجهة الخاطفة. ولم تكن السلطة اللبنانية الموزعة على مراكز قوى، داخلية وإقليمية، لتواجه إحراجاً لو أنها اتخذت القرار الذي ينقذ الجنود الأسرى قبل أن يبدأ الخاطفون تنفيذ تهديداتهم بالقتل.
دول عظمى اتخذت مثل ذلك القرار من خارج نصوص دساتيرها وقوانينها لتحرير أسراها لدى منظمات إرهابية. ومن تلك الدول الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا. ثم إن دولة لبنان ليست أعظم من أميركا وفرنسا. بل إن حياة أي جندي لبناني أغلى من مجموعة «قيم» متداولة بالعلك والسفسطة. فاللبنانيون والمعنيون بالمسألة اللبنانية في الأوساط الدولية يعرفون الأسباب التي أقحمت الجمهورية اللبنانية المزعزعة الأركان في جهنم الفوضى الإقليمية المدمرة.
ليس الجيش اللبناني من فئة «الجيوش القوية» في البلاد العربية. لكنه الجيش الذي طالما ظلّ مميزاً بعقيدته العسكرية التي تلزمه الحفاظ على النظام المدني الديموقراطي. ومع أن النظام السياسي اللبناني فقد الكثير من معاني النظام والمدنية والديموقراطية، فقد ظلّ الجيش محصناً ضد الإغراءات للخروج من الثكنة الى الإذاعة. تلك سقطة تجنبها الجيش اللبناني ونجح في مقاومتها وصدّها منذ تاريخ الهزيمة الأولى في فلسطين عام 1948.
لكن هذا لا ينفي أن للعسكريين اللبنانيين، من رتبة جندي الى رتبة عماد، ميولاً سياسية. فهم يطلعون دائماً من عائلات وبيوت لها انتماءات قد تقتصر على الاقتراع في الانتخابات النيابية، لكنهم عندما يرتدون البزّة العسكرية يتجردون من كل غاية وواجب، إلا واجب خدمة العلم، والتضحية حتى الشهادة في سبيل لبنان.
هذا ما يُقال ويُكتب في الأدبيات السياسية حرصاً على سلامة الوطن الصغير من شرّ الخطيئة المميتة التي، إذا ما سقط فيها، فستقضي على أمل اللبنانيين بالخروج من أزماتهم الى فسحة من الاستقرار والطمأنينة، مع شيء من الديموقراطية.
الواقع أن لبنان بأسره في هذه المرحلة، شعباً وجيشاً، يعيش محنة العسكريين المخطوفين، وقد بدأوا يفقدون الواحد بعد الآخر من عديدهم، وهم مهددون في كل لحظة بمصير من سبقهم. أما عملية الإنقاذ فقد باتت خارج الخطط العسكرية. إنها مرهونة بتسوية بين جهتين: جهة تضع الإصبع على الزناد والفوهة على الرأس، وجهة تفاوض وخلفها عشرات العائلات بمن فيها من آباء وأمهات، وأولاد، وزوجات، ولا فائدة من المكابرة على الجهتين، لكن الجمر على صدر جهة واحدة.
عند حدود هذه المحنة تتعطل كل القوانين بعدما تعطلت الشرائع السموية في القلوب والعقول على جبهات الحرب الدائرة في البلاد العربية. لكن، مع ذلك، لا تزال أمام لبنان فرصة وفسحة للخروج من محنته، ولا سبيل الى ذلك إلا بإخراج الجيش من بازار الاستثمار السياسي المفتوح على معركة رئاسة الجمهورية.
هناك دعم استثنائي عربي وعالمي للجيش اللبناني، وقد سبق لمجلس الأمن الدولي أن عبّر عنه في قرار اتخذه بالإجماع، لكن مجلس الأمن ذكّر مجلس النواب اللبناني بواجب انتخاب رئيس للجمهورية، بأسرع وقت، وناشد كل الأطراف أن تحافظ على وحدة الشعب اللبناني. فماذا يقال عن مجلس نواب يدعوه الغرباء الى العناية بالشعب الذي انتخبه.
ذاك نوع من الدعم السياسي الدولي للبنان يواكبه دعم مالي استثنائي تمثّل بالهبة التي قدمتها المملكة العربية السعودية لتسليح الجيش اللبناني بأحدث المعدّات الحربية والتقنية، وقد فاقت قيمتها أربعة بلايين دولار. هكذا من دون شرط ولا مطلب. وأي مطلب للسعودية في لبنان؟ وأي مطمح لها غير أمنه واستقراره واستعادة عافيته؟
تماثلاً بالمملكة السعودية، تقدمت إيران بعروضها العسكرية السخية. قالت للبنانيين: خذوا ما تحتاجون إليه وما تشاؤون وتختارون. أطلبوا فقط، ومن دون شرط، ولا مطلب، ولا منة.
لكن، من يصدق ذلك حين يقف نائب قائد الحرس الثوري الإيراني ويعلن أن إيران تقف على شاطئ لبنان الجنوبي! ثم، قبل أيام قليلة، أعلن علي أكبر ولايتي مستشار الشؤون الدولية لمرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، أن نفوذ بلاده بات يمتد من اليمن الى لبنان.
هي الاستراتيجية الفولاذية الثابتة، واللغة الخشبية الإيرانية المتحركة على الدوام في لبنان. حتى أن سفير طهران في بيروت بات يتحدث بأسلوب المفوض السامي ولعلّ إيران في أسعد أزمنتها خلال هذه المرحلة وهي تتابع تساقط هياكل الدول العربية أمامها. ولعل لبنان، بالنسبة إليها، أهم من سورية. إذ ليس لها في سورية سوى رجل نظامها. أما في لبنان فلها قاعدة، ولا يجوز الجزم بأنها قاعدة دائمة لها. ذلك أن الجيش اللبناني يبقى المؤسسة الكفيلة بإعادة جمع اللبنانيين على هدف وطني مشترك يتمثل بتجميد إسرائيل خلف خط الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة.
هذا الواجب ليس حصرياً بالجيش اللبناني وحده، بل هو واجب كل اللبنانيين ومعهم القيادات السياسية التي تتبارى في تدبيج المدائح للجيش، من دون المساهمة في دعم انتشاره حيث يجب أن يكون على أي شبر من أرض لبنان ومن دون دخيل او رقيب.
لا يذكر التاريخ أن المدائح حققت انتصارات. فلو أن المدائح تحقق انتصارات لكانت الجيوش العربية قضت على إسرائيل من زمان. لكن المدائح بمعظمها ليســت سوى إعلان تبرعات من دون ســـداد، وقد تراكــمت تلك التبرعات خلال سبعة عقود. وأخيراً راحت تتفجر دماء ودماراً مع انهيار أنظمة عسكرية قامت ودامت على إستراتيجية الخطابة والكتابة وكتم الأنفاس.
تلك محنة استطاع لبنان أن يبقى على مشارفها مع أن خسائره فاقت إمكاناته. لذلك لا يفيده الاستمرار في معمعة خطابية تشرّع الأبواب أمام الاستثمار السياسي والحزبي في الجيش. هذا الأسلوب كان ممنوعاً ومحرماً خلال عقود مضت، حتى ما قبل دخول جيوش النظام السوري الى لبنان بدءاً من نهايات حرب العام 1973.
تاريخ الجيش اللبناني في الشرق العربي له صفحة مميزة. فأشهر كلية عسكرية فرنسية في الشرق كانت في مدينة حمص السورية التي اندثرت أخيراً، كما اندثرت مدينة حلب. ومن تلك المدرسة تخرّج ضباط سوريون ولبنانيون. وعلى أيدي هؤلاء تأسس الجيش اللبناني والجيش السوري بعد الاستقلال. ومن أبرز هؤلاء الضباط الجنرال فؤاد شهاب الذي بنى هيكل الجيش اللبناني على صورة الشعب اللبناني. أي على تنوع الانتماء الديني ضمن الوحدة، ولكن بشروط الكفاية والأهلية للخدمة، وليس على طريقة من يدعو الى إتباع الشعب والجيش بالمقاومة، وذلك على سبيل المجاملة، وربما المزايدة، أو النكاية.
فمن أجل أي هدف يضحّي النظام السوري اليوم في معارك عبثية تدور منذ أربع سنوات؟
ومن أجل أي قضية، وبأحكام أي قانون، يجازف أصحاب القرار السياسي والقضائي في لبنان بحياة الجنود المخطوفين والمهددين بالإعدام.