IMLebanon

الإسلام السياسي من مشروع نهضوي مجهض إلى إصلاح ديني بازغ

على رغم أهمية الفكرة المتقادمة وقيمتها في ذاتها، فإن محاولتها تصدر مشهد الزمن في غير أوانها، غالباً ما تولد طاقة سلبية، تعمل ضد عقارب الساعة، وتعوق الطاقة الإيجابية للفكرة الأكثر حداثة. وذلك على النحو الذي يمثله أرباب الإسلام السياسي عندما يتصورون أن نماذج حكم معينة تنتمي إلى عصر مضى، وتستند إلى تأويل ديني ضيق الأفق، تستطيع أن تحكم زمناً حاضراً أو مستقبلاً آتياً لمجرد أنها تحمل شعاراً جذاباً، لا يستطيع الصمود في مواجهة قيم الحداثة السياسية المتنامية منذ ثلاثة قرون على الأقل. فلا الروح الوطنية يمكن وأدها في هذا الزمان، ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها في هذا العصر، ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها في تلك الثقافة، ولا الديموقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها الثمرة الجميلة لهذه المتوالية. إنها أبجديات الحياة المتمدنة والتنظيم السياسي في عالمنا، وكل محاولة لإهدارها غير مثمرة لأنها تضاد منطق التاريخ، بل وهوى الناس، ليس فقط هؤلاء الواعين بها، بل وأولئك الذي يجهلونها نظرياً ويعيشونها واقعياً. فثمة شخص، قد لا يعرف معنى النزعة الفردية، ولكنه يعيش تجلياتها، فإذا حاول أحد أن يكسر نمط حياته تُصدي له بقوة، إنه يدافع عن ذاتيته كإنسان. قد يكون عاملاً فقيراً أو حتى متبطلاً ولكنه يقول للآخر: أنا حر، ليس في سياق سياسي، أو أمام صندوق انتخابي، بل في أي موقف حياتي يشعر فيه بأن كرامته كإنسان صارت موضع امتهان من أحد يسعى إلى التحكم فيه أو نزع إرادته.

خرج كثيرون من المصريين في 30 حزيران (يونيو) 2013 ضد جماعة «الإخوان»، اعتراضاً، ليس فقط على أوضاع حياتية صعبة، ولكن دفاعاً عن نمط حياة مألوف بعد أن وجدوا جماعات الأمر بالمعروف تفتك بمقومات اجتماعهم المتمدين، ودولتهم الوطنية، بزعم مشروع إسلامي لم يلمسوه أبداً. فعلوا ذلك من دون إدراك لمفاهيم الدولة الوطنية والعلمانية، بل إنهم لطالما اعترضوا على بعض هذه المفاهيم، خصوصاً مفهوم العلمانية، خشية على الدين الذي أوهمهم البعض أنه يجافيه. ولم يدركوا الحقيقة، إلا عبر تجربة حياة واقعية استمرت عاماً واحداً، لعله كان ضائعاً من عمر مصر على الصعيد السياسي، ولكنه كان مفصلياً على الصعيد الثقافي، إذ وضعها على طريق إصلاح ديني تأخر كثيراً قياساً إلى حركة التاريخ العام، وعانى انقطاعاً ناهز القرن، قياساً إلى تاريخها الخاص الذي عطلته الجماعة نفسها منذ عشرينات القرن الماضي، بانقلابها على النزعة الإصلاحية المتنامية في الثقافة العربية منذ القرن التاسع عشر، والتي كادت تكتمل مع الإمام محمد عبده. وهو الانقلاب الذي حدث عبر حلقتين: الأولى تمثلت في محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده الذي خرج عليه نظرياً بتبني نزعة سلفية محافظة. والثانية تمثلت في حسن البنا، تلميذ رشيد رضا الذي أحال السلفية العلمية إلى سلفية حركية بإنشاء جماعة «الإخوان» عام 1928، والتي سرعان ما خرج من إبطها، تحت ضغط الواقع وملابسات السياسة تيارات قطبية متشددة، وروافد سلفية جهادية، وبؤر تطرف حاولت جميعها بناء وعي تاريخي تقليدي مضاد لوعي الكتلة المصرية الحديثة.

لقد اختصرت مصر عبر حكم الجماعة وسقوطها المدوي بعد عام واحد، عقوداً طويلة كانت مطلوبة حتى تكتسب هذه العملية زخمها الحقيقي، لو أن الجماعة ظلت في موقع المعارضة كما كانت طوال العقود الثمانية الماضية، أو أنها شاركت في الحكم بنصيب محدود لا يعرضها للانكشاف الذي جرى لها أو وقعت هي فيه، بتأثير رغبتها في الاستحواذ السياسي السريع، حيث أدى انفرادها بالحكم، إلى وضع كل الشعارات التي رفعتها: الإسلام هو الحل، القرآن دستورنا، في آتون واقع صعب على مرأى ومسمع من جمهور يتلقى بتحفز ردود أفعالها على أسئلة الحياة اليومية، الأمر الذي أذاب أساطيرها تحت شمس الواقع، ونزع عنها قوة السحر التي غلفتها، ووضعها تحت مقصلة الحقيقة.

وفي هذا السياق تتبدى لنا طبيعة المأزق الذي يواجه الإسلام السياسي اليوم، فالأغلب أن تتعرض تياراته الأساسية لتحدي الخروج من التاريخ، بعد أن تحولت إلى تجربة مهشمة وصدئة في صيرورته، إذ ارتكبت باسم الإسلام وتحت رايته كل الأفعال المدنسة وهي بصدد النزوع إلى احتكاره وتوظيفه في خدمة غرائز نفعية، ومصالح دنيوية، حتى أنها لم تتورع عن قتل الآخرين على مذبحه، قبل أن تغسل أيديها من الدماء بنصوصه وتأويلاته.

إنه التناقض المعروف، الذي تبدى باكراً في سياق التاريخ الإسلامي، سواء في الفتنة بين الخليفتين (الراشدين) عثمان وعلي رضي الله عنهما. أو بين علي ومعاوية، ثم بين الحسن ويزيد، قبل أن يتحول إلى قاعدة أساسية ومنوال سائد طالما أنتج شروخاً في جدران الأمة، مكرساً مذاهب كالشيعة، ومحفزاً فرقاً كالخوارج، لا تزال فاعلة حتى اليوم وإن تغيرت المسميات بحسب العصور، ومنتجاً أجيالاً متعاقبة من الزنادقة والشكاك الذين توافرت لهم شجاعة طرح الأسئلة المرة على حساسيتهم الشخصية (العقلانية). واليوم، كأن زمناً طويلاً لم يمر وقروناً عدة لم تنقضِ، فالخوارج الجدد لا يزالون يتورطون في أعمال عنف يريدون بها إثبات أنهم لا يزالون أقوياء وقادرين، من دون إدراك حقيقة أنهم كلما أمعنوا في العنف أبرزوا ضعفهم لا قوتهم، وكشفوا عن حجم تباينهم مع طبائع الأمور ومدى تناقضهم مع حاجات الناس وأفقدوا الجماهير مخزون التعاطف النفسي معهم.

وربما لاحظ القارئ هنا أننا نتحدث بالمجمل عن (الإسلام السياسي) من دون تمييز جرى عليه العـــرف بين تيار معتدل، وآخر متشدد، أو حتى بينه وبين وريثه (الإسلام الجهادي)، وليس هذا تجاهلاً لوجود هذا التباين واقعياً إذا ما ألقينا على الظاهرة نظرة (استاتيكية)، أي أفقـــية ومسطحة، حيث نطالع فروقات بين أنماط السلوك. فإذا أمعنا البصـــر، وألقينا نظرة ديناميكية، أي رأسية وتاريخية، أدركنا كيف أن تلك الفروق مرحلية فقط، وأن تلك الأنماط ليست سوى الظاهرة نفسها، ولكن في مراحل مختلفة من تحولها… فالظـاهرة برمتها تنهض على منطق واحد في النهاية، وهو أن ثمة إمكانية لأن يشرف المقدس (مباشرة)، أي بنفسه على تفاصيل حركة (الدنيوي)، ولا يكتفي بتقديم التوجيهات وإلهام الغايات فقط، وأن يبقى في الوقت نفسه مستقلاً عن هذا الدنيوي، فلا يصير (مدنساً).

غير أن صيرورة التاريخ لم تقل بذلك قط، وأظنها لن تفعل أبداً، فما إن يهبط المقدس على سطح الدنيوي وتبدأ تروس الواقع في إدارة عجلة الزمن، حتى تتوالد الاحتكاكات التي غالباً ما تكون سلسة ناعمة في البدء، هينة محتملة في المنتصف، عاصفة رعديدة في المنتهى، حيث تقع الصدامات وتتوالى الانفجارات، بغض النظر عن إصرار أرباب الظاهرة على قدسيتها أو إنكارهم دنيويتها، فالقدسية ليست ممكنة في عالم الشهادة نفسه، إلا إذا استمرت محلقة فوق الأفق، وصار الشعور بها أقرب إلى شعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة على هذه الأرض، حيث وعورة الطريق، بفعل خشونة سطح التربة أو حركة كثبان الرمل الرجراجة.

هكذا، فإن تجاوز المأزق الوجودي الذي تعيشه مجتمعاتنا إنما يفرض على أرباب هذا التيار مراجعات فكرية كبرى، تنطلق على طريق الاعتراف الثقافي الشجاع بحقيقة أن الدين لا يمتلك الحقيقة التاريخية كاملة، وأنه لا يستطيع السيطرة على الواقع ولا التصدي لأسئلته العملية، وليس مطلوباً منه ذلك، وإن امتلك إجابات عن أسئلة المعنى والمصير. ومن ثم يحتاج هذا التيار إلى تقديم اجتهادات جسورة تدفعه إلى القبول الكامل بـ (العلمانية السياسية) التي تبقي ضرورة أولية لأي دولة مدنية حديثة، ناهيك عن أن تكون ديموقراطية.

وهو الأمر الذي يعيد التدين الإسلامي إلى دوره الأخلاقي والروحي، وإلى وظيفته في إضفاء الشعور بالأمن النفسي والتكافل الاجتماعي، ويمنع تحوله إلى انتماء أيديولوجي متشدد، ومذهبية سياسية راديكالية. ويبلغ هذا الطريق محطته الأخيرة بتصالح الإسلام السياسي مع المجتمع، والتصدي الأمين لأسئلته الحقيقية حول التنمية والحرية، فإذا كان قادراً (بأمانة) على تقديم إجابات عملية لهذه الأسئلة، أو تقديم إضافة تذكر لنظام الحكم القائم، كان له حق العمل السياسي ولكن من دون بذل أي جهد (ضائع) في محاولة تمييز نفسه عما سواه من تيارات فكرية وسياسية باسم الدين، حيث ترتبط ممكنات استمراره بقدرته على الخروج من شـــرنقته والدخول في صيرورة تحول تلـــج به إلى أفق جديد تجعل منه تجسيداً لإسلام مدني محافظ أخلاقياً فقط، وليس إسلاماً راديكالياً ذا بنية أيديولوجية مغلقة أو متعالية على التـــاريخ. أما رفضه هذه الصيرورة، ومـــحاولة تحديها بممارسة العنف على النحو القائم، الممتد من «الإخوان» المتسلفين وجماعة بيت المقدس في مصر إلى النصرة و«داعـش» في سورية والعراق، مروراً بما يشبههما ويوازيهما في جل مجتمعاتنا العربية، فلن يعوق حركة التغيير، وإن رفع كلفتها، وجعلها أكثر جذرية إلى درجة قد تقضي على فرص بقائه في خريطة المستقبل.

هنا، بالضبط تكمن الممكنات العميقة للإصلاح الديني العربي الذي يصر عليه الكاتب من منظور تاريخي على رغم الواقع المعقد، والملابسات الدموية. ففي الأعوام الأربعة الماضية قام كثرٌ في مصر، وتونس، ومجتمعات عربية عدة، بطرح أسئلة عميقة بدرجات مختلفة حول الدين وعلاقته بالواقع، وتبادلوا الرأي حول شرعية تمثيل الإسلام السياسي لقيمه ومثله. كما تناقشوا حول الدستور وقيمته، والدولة المدنية ومعناها، ومبادئ الشريعة وأحكامها. وفي المستقبل القريب سيدور حوار طويل في أفق ممتد بين النخب الفكرية والسياسية عبر وسائل الإعلام المفتوحة التي ستنشغل طويلاً بوقائع هذا الحوار. وفي الأحوال كافة، سيكون الناس – الجماهير شهوداً على ذلك الحوار، كما أنهم، ومن خلال التعاطي مع القرارات والإجراءات والتشريعات الصادرة عن نظم الحكم الوليدة، والبرلمانات الجديدة، سيتأثرون به ويتفاعلون مع وقائعه.

ربما تخلى كثرٌ من المنغمسين في هذا الحوار عن بعض قناعاتهم القديمة المتشددة، وصاغوا في المقابل قناعات أكثر تحرراً، وربما عجزوا عن ذلك. س يتشاجرون كثيراً ويتفقون قليلاً، وعنده يعلو الصياح بالرفض أو التأييد، ولكن الجميع سيدخلون ورشة عمل ثقافية مفتوحة، وسيبذلون جهداً مضنيا للفهم. وفي المقابل ستدور حركة الواقع بكل قسوتها على الجميع، ستكذب ما يمكن تكذيبه، وتنتصر لما يجب أن تنتصر له من مقولات وطروحات. ستبشر وتنفر، تُفرح وتُؤلم، تصدم وتدفع، ولكنها في النهاية ستلهم وتعلم، تضبط حركة الكثيرين وتوجه أعناقهم ومساراتهم. ستنتاب الجميع لحظات شك يشتاقون فيها إلى اليقين، حيث يتمزق الناس حول فهم الدين عندما يستمعون إلى تفسيراته المتعددة. ستزيغ عقول وعيون كثرٍ، وتخور أرواحهم إزاء صعوبة الحقيقة واستعصائها على الإدراك السهل والبسيط. سيدير الناس أعناقهم إلى مراجعهم الكبرى منصتين ومراقبين، وربما يطفر آنذاك إلى مقدم الصفوف مثقف عربي علماني، يصلح بطلاً للإنسانية العربية الجديدة، ينصت إليه الناس مدركين أنه لم يكن كافراً، وأن ثمة إيماناً مختلفاً عن ذلك الإيمان الذي عرفوه في الزوايا الصغيرة، والكتب الصفراء. كما يتراجع في حضوره أئمة الزوايا والمساجد الشرعية من ذوي العمامات والجلابيب، وأئمة الفتوى الفضائية من ذوي البدل العصرية. وبمرور الزمن، سيفرض المنطق العقلاني نفسه على الجميع، من خلال التجربة. ستتسع الكتلة الحديثة باستمرار وتستقطع من نقيضتها السلفية باستمرار أجزاء متنامية، حتى تفقد الأخيرة حضورها المتكافئ وتتحول إلى حضور نحيف لا يعوق تدفق الأولى في مجري التاريخ العربي، بل ربما مكنها من قيادة المشروع النهضوي العربي، تجاوزاً لمأزق دولة عصر التحرر القومي، الذي كشفت عنه العقود الستة الماضية.

* كاتب مصري