من النافل أن التواضع فضيلة حرجة هذه الأيام، لأن النزق المعرفي عميم. تواضع يصدر عن شهوة أقل للإسراع إلى الخلاصات كمخرج كسول من فوضى المعطيات، تواضع سيشغلنا بالكثير من التفكير والقليل من الأفكار. معلوم أن الأمر سيؤول إلى منطق الخلاصات الرخوة، ليس لرخاوة الحقائق بل لهشاشة العدسة التي نطل من ورائها. هي هشاشة عضوية تجعل الساعي إلى العدسة «النظيفة» ساذجاً يبحث عن يوتوبيا لن يجدها خارج المجاز اللغوي.
المعضلة أن الثبات في بلادنا شرف يدّعيه الجميع، ولكنه في البلاد البعيدة شتيمة متكاملة الأوصاف. واللازمة التي تقول بالثبات إزاء المبادئ والمرونة في ما يتصل بالتفاصيل تثير الضجر، غالباً لأن الحدود بين المبدأ والتفصيل غائمة وتخضع للتعديل المصلحي.
في مكان ما، الجميع في لبنان تراجع عن ثوابته خلال السنوات الماضية. لكن تاريخ وليد جنبلاط العريق في التقلب يجعل تقلباته أقل وطأة على محبيه وأكثر أهمية لمتابعيه، لأنها تشكل محطة من كُلِّ تقلبي له نكهته المفارقة.
الإقليم برمّته يخيّب آمال وليد جنبلاط هذه الأيام من رهاناته السورية إلى اليمنية وما بينهما. لا أحد يعلم الكيفية التي سيبتلع بها جنبلاط مثلاً خروج النظام السوري من محنته، لكن الجميع يجزم بحصول الابتلاع بتوقيت تخلٍ يمتلك هو فقط شكله وإخراجه.
من الملحّ فك ارتباط «هضامة» وليد جنبلاط عن الجنبلاطية السياسية كمقدمة لا بديل منها لاكتشاف الثانية وأخذها على محمل الجد. فالأولى تقع في الذاتي الذي لا يُعلَّل، وهي تجعل منه «رزقا» إعلامياً وإعلانياً خالصاً تتسابق البرامج السياسية على استضافته وإن لم يربح في هذا السباق إلا محظوظ واحد. أما الجنبلاطية السياسية فهي إضافة قيمة على فقه الأقليات في باب البقاء على قيد الفاعلية. وباستثناء بعض الشطحات الخطابية في الباحة الآذارية السابقة، فإن هذا الفقه يؤدّى بشكل معقول حتى الآن. ولمن يجردون الجنبلاطية السياسية من عقلها باعتبارها ليست أكثر من «قفشات» كوميدية، عليهم تلمسها في سيرة كمال جنبلاط ليقعوا على تقاطع لا يخفى بين الأب والابن، يجزم بجدارة الثاني في ممارسة الإفتاء من موقعه الزعامتي الخاص.
كيف ننظر إلى وليد جنبلاط؟ هناك أكثر من طريقة، أسوأها بالتأكيد أن نأتي على الرجل بمساطر أخلاقية عملاقة لنقيسه عليها. المساطر جيدة في حالة اختيار عريس مناسب، لكنها مضللة في حالة «الزعماء» المناسبين. في سياق النظام اللبناني الحالي، المعطوب بطبيعة الحال، يتفوق جنبلاط على الزعماء الآخرين في نسبة القبول التي يحظى بها داخل طائفته، وهذه هي المسطرة الأكثر أهمية. ينافسه اثنان، واحد لم يضف جديداً على تراثه المجيد، وآخر لم ينجح حتى الساعة في الخروج من المزاح. هما بالتأكيد المنافسان المثاليان له، وهذا رزق آخر يُحسد عليه.
هو دائماً ليس الخصم الأكثر شراسة وليس الصديق الأكثر قرباً. وحتى عندما يضع قدميه معاً في مكان واحد، فإنه يترك إصبعاً على الجهة الأخرى يرجح إحدى كفتي الميزان متى لزم الأمر.
كاريزما وليد جنبلاط تصدر عن فضائله وعيوبه معاً. هو ليس بحاجة لأن يكون محقاً، بل لئلا يكون مملاً، وهو ينجح في ذلك. في الأخير، هذه هي ألف باء النجومية.