معالم سياسية رسمت خريطة التغيير والإنقلاب على الرتابة والإحباط
قصة ملك استعاد عرشه والسلطان والعنفوان
ووقائع نصف قرن بين مورفي الاول والثاني
بدا الرئيس أمين الجميل، يوم الجمعة الماضي، مثل ملك استعاد عرشه، او كملك استعاض سلطاناً خبا بريقه، وهو محاط باصدقاء دعاهم ليشاهدوا عودة البريق الى عرش لا يليق لسواه.
قبل نحو ربع قرن، وقف الرئيس أمين الجميل في جوار قصر بكفيا، بين السراي والقصر العريق، وبه شموخ القيادة، وعنفوان السلطة والرئاسة، وبيده سنسال من ذهب، يتدلى من جيب بنطلون أنيق وراح يُشير الى قرب عودة الموفد الأميركي ريتشارد مورفي من دمشق، بعد محادثات صعبة مع الرئيس حافظ الاسد. نظر فخامة الرئيس الى ساعة تزين معصم يده اليسرى، حدق فيها بعض الوقت، ثم رجع خطوات الى الوراء، وهو يردد ان المهم بالنسبة اليه، الا يعود لبنان الى الوراء.
كان الرئيس أمين الجميل يبدو مرتاحاً، لانه يودع السلطة، ولم يتنازل عن شيء، والرئاسة الاولى لا تزال ترئس البلاد، ولا يضاهيها احد، لا في القوة ولا في المناعة.
بعد ٤٨ ساعة، عاد ريتشارد مورفي من دمشق، مثقلاً بالمتاعب، ومرهقاً بحوار صعب مع الرئس السوري، وعرّج على بكفيا، ليطلع رئيس الجمهورية، على حصيلة محادثاته مع الرئيس الذي ينام في النهار، ويعمل طوال الليل.
ومن خصوصيات الرئيس حافظ الاسد، انه يستقبل الموفدين، عند الفريق الاخير من كل ليل، من الليالي الدمشقية الصعبة، ولا يبدأ حواره مع زواره الا بعد ارهاقهم بالموضوعات التاريخية. وهذا ما يقتصر اليه نجله الرئيس الدكتور بشار الاسد.
كان حافظ الاسد، يستقبل ريتشارد مورفي نفسه، عندما دعاه الى التحديق في صورة ترمز الى القائد التاريخي صلاح الدين الايوبي، فاعجبت الفكرة مورفي الجديد، كما اعجبت قبل نصف قرن، فكرة العودة الى صلاح الدين بين روبرت مورفي الذي كان يزرع اتفاقاً، في العام ١٩٥٨، بين الرائد العربي جمال عبد الناصر والرئيس الاميركي الجنرال دوايت ايزنهاور، على اختيار الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اللبنانية، وحبكت النكتة بين مورفي الجديد والقائد السوري الحديث، فبادره: اذاً، انا الآن في حضرة الاسد، كما كان مورفي القديم في جوار الجنرالين القديمين.
وسأله روبرت مورفي: على من يريد فخامة القائد، ان نتفق على الرئيس المقبل للبنان.
ضحك الرئيس الاسد، على ما يُقال ويُروى: انا لا أعرفه، لكن ابو جمال اعطاني اسماً لائقاً بان نتفق معاً عليه وهو النائب مخايل ضاهر.
بعد ثلاث ساعات أدرك مورفي الجديد، ان على اللبنانيين ان يقبلوا بالشيخ مخايل، او ان يعيشوا اياماً طويلة بلا رئيس للبلاد.
غادر الموفد الأميركي بكفيا، وقد سبقته الى العاصمة اللبنانية اخباره والاشاعات: مخايل ضاهر أو الفوضى.
كان النواب المسيحيون مجتمعين في بكركي، وهبوا جميعاًً، ضد الاتفاق الأميركي – السوري، معززاً بمعارضة قائد الجيش يومئذ العماد ميشال عون.
ومرت الأحداث وانتهى الرئيس أمين الجميل الذي كان في حوزته، خيارات عديدة، تهدف الى تسليمها السلطة، لكنها واجهت عقبات مقصودة ضد بلوغ الأزمة حدودها المتوقعة، الا انه آخر رحلة له الى دمشق، بنصيحة الرئيس حسين الحسيني والاستاذ غسان تويني، واجهت، في أثناء اجتماعه بالرئيس حافظ الاسد، خبراً صاعقاً تمثل باجتماع في اليرزة بين العماد ميشال عون قائد الجيش والدكتور سمير جعجع.
في تلك الليلة، اي بعد عودته من دمشق، واجتماع القادة المسيحيين في بعبدا عشية انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، ضرب الرئيس اللبناني ضربته الذكية، والف حكومة من المجلس العسكري برئاسة العماد عون، وبتأييد غامض من الدكتور جعجع، والحكاية باتت معروفة، اذ منع السوريون الاعضاء المسلمين من البقاء في الحكومة، واستقال منها ثلاثة هم اللواء محمود طي ابو ضرغم، والعميد نبيل قريطم والعقيد لطفي جابر واستمرت باستمرار العقيد ادغار المعلوف النائب الحالي والعقيد عصام ابو جمره.
رحل الرئيس الجميل الى داره، وتحقق حَدْسه ووقع الصدام المسلح في الشرقية، وانتهت الأحداث بحمل النواب الى السفر الى مدينة الطائف في السعودية، حيث اجتمعوا هناك برئاسة الرئيس الحسيني لمدة ٦٢ يوماً، وابرموا وثيقة الاتفاق الوطني، سميت باتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً جديداً للبنان، بعد مناقشات حادة تدخلت لتطويقها دول عديدة في العالم والمنطقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي كان السفير دايفيد ساترفيلد موجوداً هناك، وعلى اتصال بالمجتمعين. ومثل الرئيس رفيق الحريري دوراً هاماً، لان الإتفاق الذي توصلوا اليه، لم يكن الا ترجمة مكتوبة لما هو معروف في الدستور، كما يقول النائب نصري المعلوف.
كانت هذه الافكار تطوف في اذهان الوجوه التي لبّت دعوة الرئيس امين الجميل الى العشاء في بكفيا لمناسبة تدشين بيت المستقبل في السراي الذي تحول الى مكاتب للمقر الصيفي للقصر الجمهوري في اثناء ولاية الرئيس أمين الجميل من العام ١٩٨٢ الى العام ١٩٨٨.
بعد تلك الحقبة، ارتفعت وتيرة الصراع السياسي في المنطقة الشرقية من لبنان، وتوالت الانتفاضات داخل حزب الكتائب، واتسعت المعارك بين العماد عون ومعه القسم الاكبر من الجيش اللبناني والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور جعجع، وقام الثنائي جعجع وبقرادوني بحرب على الرئيس الجميل الذي اضطر الى مغادرة لبنان مع عائلته الى باريس.
هذه الأحداث كانت تطوف في ليلة استعادة الأمجاد في بكفيا، لان الرئيس الجميّل، يقود الآن معركة إستعادة الجمهورية واستعادة الكتائب أمجادها، لكن لا أحد يعطي تأريخاً لتلك الحقبة، أفضل من الاستاذ جوزف أبو خليل، الذي روى في كتابه عمري، عمر لبنان كيف عاد القائد الى عرينه. ويقول : تحت عنوان: الولادة الجديدة:
…. وأخيراً عاد الرئيس الشيخ أمين الجميّل إلى الوطن.
كان ذلك نهار ٣٠ تموز العام الالفين، وبعد أثنتي عشرة سنة أمضاها في المنفى أو في باريس التي تصبح، بالفعل، منفى اذا ما كانت الاقامة فيها جبرية أو بالإكراه والإقصاء والحرمان.
كان قد حاول، من قبل، أن يعود هو وعائلته فمُنع من ذلك مرتين بلغ التشدّد في احداهما أن تمّ إنزال حقائب السفر من الطائرة، بعد شحنها قبل الإقلاع بدقائق. وقد جاءت التعليمات من بيروت متأخرة لكنها حاسمة، تبلّغها السفير اللبناني في العاصمة الفرنسية. في المرة الاولى برقية من سطرين يفترض أن تكون مرسلة اليه من وزارة الخارجية اللبنانية، وخلاصتها ان لا مخالفات إدارية أو مالية على الرئيس الجميّل، الا انه قد اجتمع باسرائيليين. كان ذلك ردّاً على علم وخبر بالعزم على العودة الى الوطن رأى الرئيس الجميّل ان من اللياقة أو من الأصول أو من الواجب ابلاغه الى السفير اللبناني في باريس ففعل، وكان الجواب سلبياً.
اتصل بي ليلاً وفي ساعة متأخرة من العاصمة الفرنسية ليعلمني بالأمر قائلاً: لا تنتظروا وصولنا… ها نحن جويس وأنا عائدان للتوّ مع حقائبنا من مطار شارل ديغول الى البيت، بيتنا الباريسي طبعاً، ولا عودة الى الوطن حتى إشعار آخر. قلت غاضباً: وهل بسبب ادعاء فارغ مثل هذا الادعاء تمتنع عن المجيء، فكان جوابه إن وراء هذا الادعاء الفارغ رسالة تحذير بدل أن تكون – كما هو مفترض – رسالة ترحيب، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، وما حدث هو عمل رجال مخابرات أعرفهم، وأعرف طرائق عملهم، لا عملا دبلوماسيا، وأشك في أن تكون دوائر وزارة الخارجية هي التي كتبت هذا الجواب المقتضب.
لقد اقتضى الأمر تغييراً واسعاً على الساحة اللبنانية كي تصبح عودة الرئيس الشيخ أمين الجميّل الى الوطن مطلباً داخلياً بدل أن تكون العكس. لقد تحقّق الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الجنوب والبقاع الغربي في اواخر شهر أيار ٢٠٠٠ فتغيّرت أمور كثيرة في النظام الأمني اللبناني – السوري الذي يقبض على البلد وفي طرائق عمله. الا انني لا أبالغ إذا قلت إن التغيير الاهم هو الناتج عن الفتح الذي حققه شهيد الكتائب ولبنان الشيخ بيار الحفيد على الصعيد الشعبي والسياسي في أقلّ من خمس سنوات، وانطلاقاً من الصفر، من لا شيء، عندما عاد بيار أمين الجميّل منفرداً الى الوطن ليجعل من عودة والده قضية، ومعها عودة الكتائب الى الساح، وكان له ما أراد على المستويين معاً. لقد صنع تيّاراً أو بمعنى من المعاني رأياً عاماً على هذا الصعيد تردّدت اصداؤه تحت قبة البرلمان بالذات عندما تجرّأ بعض النواب وعبّر عن استغرابه سوء التصرّف مع الرئيس الجميّل مطالباً بالكفّ عن عرقلة عودته الى الوطن. كتبت إليه على الفور أقول ما خلاصته أن هناك تغييراً في المناخات العامة والفرصة متاحة لعودتك وقد لا تدوم طويلاً، كما كل الفرص التي تسنح للبنان، لكنّها لا تدوم، فامّا أن تأتي الآن وإمّا ان تظلّ عودتك معلقة الى أجل غير مسمّى. وكتب له آخرون غيري من أحبّاء وأصدقاء بهذا المعنى الى أن قرّر المجيء.
المخاصمة والمصالحة
هل تعود الكتائب الى سابق عهدها وحضورها السياسي.
الجواب عن السؤال بات ممكنا، فقد استطاع الرئىس أمين الجميل حلحلة العقد التي تعترض المصالحة بين التيارات بحكمته الواسعة وسعة صدره الى التوافق على سلسلة خطوات من شأنها أن تضع الكتائب على الخط الذي يعيد إليها وحدتها وتماسكها، وفي ظل القادة الموجودين من دون استثناء مع الاعضاء السابقين، تحت سقف الدائرة العريقة بيت المؤسس في بكفيا.
الخطوة الثانية: تنبثق عن هذا اللقاء لجنة تسمى لجنة المصالحة، برئاسة الرئىس امين الجميل ويتمثل فيها شتى الافرقاء وتكون مهتمها، طبعا، العمل على ترسيخ المصالحة، ولكن أيضاً التحضير لاحتفال ضخم بعيد الكتائب لتلك السنة حدد موعده في الثالث من كانون الأول، كما التحضير للمؤتمر العام الاستثنائي الذي سيكون الحد الفاصل بين عهدين.
الخطوة الثالثة، صدور قرار عن المكتب السياسي بالدعوة الى انعقاد المؤتمر المذكور ضمن مهلة ثلاثة اشهر يتولى تقصير ولاية القيادة الحالية وانتخاب قيادة جديدة.
هذه هي الآلية التي اقترحها الرئىس الجميل، ونجح في اقناع الجميع بملاءمتها، وبخاصة رئيس الحزب الحالي آنذاك منير الحاج الذي ظل حتى الأمس القريب يرفض أن يكون وجوده على رأس الحزب هو العقدة، وأن يكون ذهابه هو الحل. لقد استطاع الرئىس الجميل اقناعه بالخطوات التي تقدم ذكرها والحصول على تعهد منه بالسير فيها وصولاً الى الحل المرتجى.
كان الحدث البارز، بعد تقدم خطوات المصالحة الكتائبية، ظهور تجمع ما أطلق عليه غالبا لقاء قرنة شهوان الذي جمع افرقاء لبنانيين، تحت شعار لبنانية التوجه ضد القوى الموالية للخط السوري.
ولعل السلطة حارت في كيفية التخلص من لقاء قرنة شهوان أو على الاقل محاولة ترويضه وكسر شوكته وارغامه على الانكفاء.
وبدت حرب شاملة عليه أو محاولة قمعه، وكل ما نص عليه الدستور من هذا القبيل في نظر السلطة، هو منع لقاء شهوان وان لم يكن صراحة، فمداورة.
الا ان اللقاء كان يقوى ويصمد، بدل أن ينكفئ ويصغر، فيما كانت المرجعيات الاسلامية تشكو من فقدان المحاور باسم المسيحيين، أو انعدام الرؤية، والفرق في الاحباط وفي الاعتكاف عن احياء مشروع احياء الدولة.
ولأول مرة منذ سنوات يتحول الاحباط المسيحي الى ثقة في النفس!
ويتحول لقاء قرنة شهوان معه الى قيادة أو مرجعية يغار عليها المسيحيون عموماً، ويتمسكون بها، ويعبرون من خلالها عن اراداتهم. وهذا ما لم تفهمه السلطة القائمة على الاحباط المسيحي نفسه، أو هي لا تريد أن تفهمه. والحقيقة تقال ان الحرب المعلنة على لقاء قرنة شهوان هي، في الوقت عينه، حرب على اليقظة التي كان التعبير عنها في انتخابات المتن، والتي تنظر السلطة اليها على انها خطر عليها كما على السياسات التي تتبعها تحت عنوان الثوابت الوطنية ومقتضيات السلم الاهلي!
وليس سراً ان اليقظة التي تجلت في الانتخاب الفرعي في المتن قد أيقظت الكثير من الآمال، أقله الامل في تغير مماثل في مناطق اخرى من لبنان: لقد اكتشف اللبنانيون ان الاقبال الكثيف على صناديق الاقتراع، من شأنه قلب كل المعادلات، مهما بلغ تدخل السلطة في العملية الإنتخابية على نحو مغاير للقوانين، بما فيه قانون الانتخاب نفسه الذي هو من صنع أيديها. وقد ساد الاعتقاد ان ما حدث في المتن سينتقل، بالعدوى، الى مناطق أخرى من البلاد، او ان التجربة الناجحة في المتن يمكن تعميمها على سائر المناطق اللبنانية: ان صندوق الاقتراع هو الوسيلة الفضلى لتغيير واقع الحال، فلا ضرورة للنزول الى الشارع او للاضرابات والتظاهرات.
ولكن، ماذا لو نالت السلطة أغراضها وكان لها ما تريد من هذا القبيل؟
يذهب لقاء قرنة شهوان لكن المعارضة المسيحية باقية. وقد أصاب النائب الشاب الشيخ بيار الجميل عندما قال: نستبدل الارزة على العلم اللبناني بنجمة، ونسمي لبنان لبنانستان، ولكن ماذا بعد، وهل تظن السلطة انها في هذه الحال هي المنتصرة في صورة نهائىة؟! فمصادرة الفكر والروح أمر عجزت عنه التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي، وقد دامت عقوداً من السنين. كما ان اربعمئة سنة من الحكم التركي العثماني ظلت عاجزة عن إلغاء الفكر الذي صنع لبنان. فالحرية هي المنتصرة دائما، في الامس واليوم وفي كل حين كما يقول جوزف أبو خليل.
كان من الطبيعي جداً ان تعمد سوريا لدى توليها شؤون لبنان بتكليف أميركي واضح وكامل، الى التأسيس لحكم لبناني تثق فيه وفي اشخاصه وتطمئن الى أنه لا يعمل ما يخالف سياستها الإقليمية والدولية، ولا يستقل عنها، ولا يضر بمصالحها. فهي منذ زمن بعيد تنشد هذا الحل لعلاقتها المتوترة مع لبنان. ولما سنحت الفرصة، اتخذت من إتفاق الطائف غطاء لتحقيق هذا الإنقلاب، فأصبح البعثيون والقوميون السوريون نواباً ووزراء، وبات على كل من يريد ان يكون نائباً أو وزيراً أو رئىساً من اللبنانيين، أن يحظى بموافقة دمشق وبركتها. وقام من يفلسف هذه العلاقة بين دمشق وبيروت ويؤسس عليها ثقافة سياسية كاملة تنقض تلك الثقافة التي قام عليها لبنان السيد الحر والمستقل وتحكم ببطلانها، وقد تربى على هذه الثقافة الجديدة كثيرون، مسلمون ومسيحيون، وتبارى كثيرون في اتقانها والعمل بموجبها، وبلغت الحماسة ببعضهم حد الانقلاب على الذات، تحت عنوان التغيير أو التحديث أو التجديد. ومثال على ذلك: أقام كريم بقرادوني في ذلك الحين مأدبة تكريمية لرئيس جهاز المخابرات السورية في لبنان رستم غزالة، على اسم الكتائب وباسمها. أجل، الى هذا الحد وصلت العلاقة بين البلدين، وكل عمل مخالف هو هرطقة فكرية وايديولوجية، أو على الاقل خروج على الثوابت الوطنية.