تقدر قيمة إعادة الخدمات البسيطة إلى الموصل على أثر الدمار الذي خلفه تنظيم داعش في العراق – بعد اتباعه سياسة «الأرض المحروقة» – بأكثر من مليار دولار، بينما تفوق تقديرات مجمل أعمال إعادة الإعمار مبلغ 100 مليار دولار. ولكن لا يصح تقييم أضرار «داعش» على العراق وسوريا بالتكلفة المالية فقط؛ فأضرار «داعش» متعددة الأوجه، وعلى رأسها الأضرار التي ضربت المجتمع، بالإضافة للخسائر البشرية والأضرار الكبيرة التي أصابت الثروة التاريخية والمعالم الأثرية. وبينما من الضروري حصد الأضرار البشرية – ولم تعلن رسمياً إحصاءات حول أعداد القتلى والجرحى بين المدنيين والمقاتلين حتى الآن – هناك ضرورة لمنع تكرار الأحداث التي أدت إلى تغلغل مقاتلي «داعش» في الموصل والرقة والأنبار، وغيرها من مناطق داخل كل من العراق وسوريا. وذلك يعني منع تكرار الانفلات الأمني، واضطهاد فئات معينة من المجتمع، بناء على هويتها الإثنية أو الطائفية، كما يعني البحث عن حلول جذرية لفشل الدولة. وإعادة إعمار مدن تاريخية تجسد الحضارة العربية، مثل الموصل وحلب، ضرورة من أجل رسم الخريطة السياسية لما بعد «داعش»، في كل من العراق وسوريا وفي العالم العربي بشكل أوسع. فمناظر الدمار لا يمكن أن تكون هي السائدة في ذهن المواطن العربي عندما تكون مكافحة الإرهاب هي الهدف الأسمى في هذه المرحلة.
وبينما انشغل العالم بمحاربة «داعش» خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تقف عجلة التطورات في المنطقة، بل تسارع بعضها… وقد أصبحت عصابات الجريمة المنظمة تتلبس بلباس «الدين»، لكن وجهها القبيح قد ظهر بوضوح، مما يعني أن هناك فرصة لدحرها نهائياً. ولكن في الوقت نفسه ظهرت مجموعات جديدة تثير القلق، فعلى سبيل المثال، بحجة مكافحة الإرهاب، استطاع البعض التخلص من خصومه، وتم عسكرة المجتمع، وحاولت دول إقليمية أن تضع نفسها في خندق «محاربة الإرهاب» رغم دعمها لمجموعة ورطت نفسها في أعمال إرهابية.
ومن جهة أخرى، وبعد مائة عام من انهيار الدولة العثمانية نرى طلائع الجنود الأتراك تصل إلى الدوحة.
ومن المفارقات أن تأتي ذكرى مرور 100 عام على الثورة العربية الكبرى، وتركيا تدشن قاعدة عسكرية في قطر. ومن الجانب الآخر، يصول ويجول العسكريون الإيرانيون في العراق وسوريا، ويتحكمون بـ«حزب الله» في لبنان. ونجد عضواً في البرلمان العراقي تقول: «لولا قاسم سليماني لما تحرر العراق من (داعش)»، ناسية تضحيات الآلاف من أبناء الجيش والشرطة العراقية والبيشمركة وبعض عناصر الحشد الشعبي.
كل هذه المخاطر تحيط بالدول العربية، وقضية العرب الأساسية – والتي لا يمكن نسيانها – فلسطين تبقى معلقة وتزداد تعقيداً؛ فانتهاكات إسرائيل في المسجد الأقصى وحصارها الخانق على غزة ليست جديدة، ولكن الأسابيع الماضية شهدت أحداثاً كان من المفترض أن تهز العالم العربي ولكنها مرت مرور الكرام؛ فبينما تسعى الدول الإقليمية إلى تحقيق أهدافها، التي غالباً ما تتضارب مع مصالحنا العربية، تبقى الرؤية العربية للمستقبل ضبابية. وهناك انقسام واضح بين القوى العربية اليوم تؤثر على ما يحدث في المنطقة، وفي مجملها تأتي ضمن صراع جوهري عن مستقبل شكل الدولة العصرية في العالم العربي. هل ستكون الدولة خاضعة لأهواء اللاعبين خارج سلطة القانون والدولة، مثل الميليشيات الليبية الرافضة لسلطة الجيش الليبي الوطني أو الحوثيين الذين يصرون على السيطرة على صنعاء، رغم فشلهم الواضح في إدارة أبسط أمور الدولة؟ أم ستنحصر الدولة العربية في إطار ديني، على غرار ما يريده تنظيم الإخوان المسلمين أو نظام طهران الذي يضاعف من مساعيه لتصدير الثورة الخمينية إلى العراق ولبنان وغيرها؟ أم ستكون الدولة العربية ضعيفة ومستضعفة أمام آفة الفساد وإهدار المال العام؟ لدفع كل هذه الاحتمالات، وبناء دول عصرية قادرة على مواجهة تحديات العصر، مثل مكافحة التغيير المناخي، وخلق فرص العمل والحياة الكريمة لشعوبها، يجب اعتماد سياسات واضحة تدعم سيادة القانون، وتبني مؤسسات راسخة لا يمكن لدولة ناجحة الاستغناء عنها.
نمط الدولة العربية العصرية، والخريطة السياسية التي ستحدد مستقبل الدولة وموقع قوتها، يتأثران بثلاثة عوامل أساسية: أولها عامل المال الذي من المفترض أن يستخدم لبناء مدن عصرية؛ مثل أبوظبي التي تم اختيارها هذا الأسبوع ثاني أكثر مدينة مريحة للعمل والمعيشة. والعامل الثاني القوة العسكرية والاستقرار الأمني الضروريان لبناء أي دولة راسخة ومؤثرة وقادرة على صد التدخلات الخارجية والمجموعات المارقة. ولكن العامل الثالث والأهم على المدى البعيد هو الفكر السليم والمقنع. هل فكرة الدولة الحديثة المبنية على سيادة القانون مقنعة للمواطن بما فيه الكفاية لتترسخ في ذهنه حتى يدافع عنها بقوة نفسها اندفاعه للقتال ضد الإرهاب؟ فالعمل من أجل حلم دولة القانون، بدلاً من القتال ضد كابوس الإرهاب، يحتاج إلى أسلحة متعددة وعزيمة متجددة وتحالف أدق يشمل الدول العربية والدول الصديقة لشعوبها ولبناء مستقبل أكثر إشراقاً.