Site icon IMLebanon

تعويم الأحزاب على أنقاض الاعتراض الشعبي

 

 

كل القراءات تصبّ في اتجاه واحد، حجم الاعتراض الشعبي على الانهيار محكوم بمفاصل حزبية وبطفرة الأحزاب التي تعيد إمساك الواقع الشعبي بعناوين سياسية وتجاذبات طائفية

 

غضّت الأحزاب والقوى السياسية و«المجتمع المدني» وشخصياته، التي تحوّل بعضها نواباً، النظر العام الماضي عن إرجاء الانتخابات البلدية، وخاضت على هذا الأساس، وعن سابق تصور وتصميم، الانتخابات النيابية، مفترضة أنها قادرة على التحكّم بها لاحقاً للإمساك بمفاصل المدن والبلدات حزبياً. المفارقة، اليوم، في الكلام عن الانتخابات البلدية ليس ربطاً باحتمال، ولو ضئيل، لإجرائها مع الشغور الرئاسي على غرار ما جرى في الشغور الفائت عام 2016، في ظل حكومة كاملة الصلاحيات، إنما في حماسة الجمهور الحزبي لهذه الانتخابات، رغم الواقع الحياتي والاقتصادي الذي يعيشه اللبنانيون، وما تعيشه البلديات نفسها من أزمات مالية.

 

 

وهذا يعكس، في مكان ما، طفرة الأحزاب مجدداً في الواقع السياسي، على قاعدة شدّ العصبيات السياسية والطائفية والحزبية، بتزكية مستمرة في ملفات رئاسة الجمهورية والحكومة والصلاحيات. وهذا الأمر ليس حكراً على طائفة أو فريق حزبي دون سواه. فإحدى مفارقات التعاطي مع الوضع اللبناني في الآونة الأخيرة النظر، خارجياً ومحلياً، باستخفاف الى غياب ردة فعل كان يفترض أن يقوم بها اللبنانيون تجاه الأوضاع التي يمرّون بها. فأن يتقبّل اللبنانيون انهيار الليرة الى هذا الحدّ، وارتفاع أسعار السلع الغذائية وثمن المحروقات وفاتورة الكهرباء، من دون معارضة إلا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يعكس حجم التموضع الحزبي والطائفي الذي بات أقوى من الاعتراض الشعبي.

وهذا من شأنه أن يعيد قراءة ما جرى في الانتخابات النيابية وما تعدّ له هذه الأحزاب على طريق إجراء الانتخابات البلدية التي قد لا تحصل، في عزّ الانهيار السياسي. وبعيداً عن محاولات بعض القوى السياسية الاستئثار بالتحرك النقابي واستخدامه أحياناً لغايات سلطوية، كما حصل في أكثر من محطة معيشية، قبل عام 2005 أو بعده، فإن بعض النماذج النقابية والتحركات المعيشية أخرجت الأحزاب من قدرتها على التحكم بالاحتجاجات. وما جرى في 17 تشرين الأول 2019، بغضّ النظر عن الاصطفافات اللاحقة والاستثمار السياسي لنواب وصلوا على متن شعارات المحتجّين، أفرز نواة من المتحركين احتجاجاً خارج الإطار الحزبي.

 

ما فعلته انتخابات عام 2022، أنها كرّست مساحة مختلفة عن الأحزاب، ومثّلت الذين تظاهروا احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، وكان يؤمل البناء عليها مستقبلاً. لكن الممارسة السياسية لنواب هذه المساحة الشعبية أظهرت أنهم تصرفوا منذ انتخابهم على غرار نواب العائلات التقليدية، أو كنموذج حزبي خالص، وتصرف ناخبوهم كذلك على القاعدة نفسها. وهذا ما أدى الى ارتداد مضاعف في اتجاه الأحزاب – وهنا المعارضة في شقّ أساسي، فضلاً عن الأحزاب الأخرى التي حافظت على صعودها متّكئة على خطب نارية لشدّ عصب جمهورها في ظل عناوين تبدأ بأميركا وتنتهي بمعركة صلاحيات الحكومة. إذ لا يمكن أن يمرّ هذا الانهيار الكبير من دون أيّ ردّة فعل، لو لم تعد الأحزاب الكبيرة والصغيرة الى التحكّم بالجمهور الذي لن يتحرك إلا على وقع إشارة من قيادته الحزبية. ومن الصعب وضع كل هذا «التأقلم» مع الانهيار المالي، على عاتق يأس اللبنانيين، أو على أكتاف المغتربين والمؤسسات الاجتماعية الداعمة. فحجم التماهي مع هذا الوضع غير المسبوق لا يمكن أن يكون فقط نتاج التحويلات المالية الخارجية ورواتب المؤسسات والجمعيات الأجنبية العاملة في لبنان، ما يسحب أي مظهر اعتراضي. ثمّة طفرة حزبية وطائفية، أبعد من شعار كبير حول نوع المواجهة بين مشروعين في لبنان والمنطقة، تستفيد من كل الواقع السياسي المتشنّج، ومن الانقسام الحادّ طائفياً، لتعيد القواعد الى بيئاتها وتجعلها حكماً منصاعة الى قواعد التحرك الشعبي أو عدمه. وهذه الفورة الحزبية تعبّر عن نفسها في القبض على مفاصل الحركة الشعبية وعلى الملفات التي تجعل من السهل استثارة الغرائز السياسية والطائفية في كل الاتجاهات.

 

لا يمكن أن يمرّ هذا الانهيار الكبير من دون أيّ ردّة فعل لو لم تعد الأحزاب إلى التحكّم بالجمهور

 

بهذه الطفرة، يمكن فهم سكوت القواعد عن دفاع أحزابها والمؤسسات الدينية عن المصارف رغم سرقتها لأموال المودعين الذين هم جزء أساسي من تركيبة الأحزاب وهذه المؤسسات الدينية. وكذلك يمكن فهم تسليم القواعد الشعبية بانهيار أوضاعها لمصلحة المعركة الكبرى ضد حاكم مصرف لبنان، أو ضد العقوبات الغربية والحصار الأميركي. ثمة محاولة للإمساك بمفاصل الواقع الشعبي في كل الاتجاهات تحت عناوين متناقضة، وتعيد إنتاج مرحلة سبقت تظاهرات 17 تشرين، إنما بإحكام أكبر. وما يزيد من اندفاعتها، الانهيار المتمادي يوماً بعد آخر، إذ تكبر معه الحاجة الى اللجوء إليها عبر مساعدات أو عبر وساطة الدخول الى المستشفيات والحصول على الدواء. والأهم من كل ذلك اللجوء إليها في معركة خيارات مصيرية تضع الأحزاب في مواجهة بعضها بعضاً بعناوين تقسيمية وطائفية وسياسية، واختيار أيّ لبنان تريده هذه الأحزاب. تحت هذا الشعار يصبح الكلام عن الخبز والدواء والكهرباء من عدّة هذه المواجهة.