عجيبٌ أمر القوى السياسية في البلد حين تستخدم كلمَتيّ «المحاصصة السياسية» في معرض رفضها وإلقاء الحُرم عليها، وهي تدري أن من دونها لا يمكن رئيسَ وزراءٍ مكلّف تشكيل الحكومة كنوّاف سلام أن يُنهي مهمته بنجاح. وأكثر من يعرف هذه الحقيقة هو نواف سلام الدكتور الأكاديمي الذي يعي الواقع السياسي المحلّي بكل تناقضاته وشعاراته التي يرفعها البعض تحديداً تجاه غيرهم، في الوقت الذي يتمنونها ويسعون إليها لأنفسهم ولأحزابهم.
فالمحاصصة بين زعماء القوى السياسية لاختيار وزراء يسمّونهم سواء من النواب أو من خارجهم هو الطريق الوحيد الذي يستطيع به سلام تأليف حكومته، وإلّا من أين سيأتي بأعضائها من كل طائفة، ومن غير المتداولة أسماؤهم عادةً عند تشكيل كل حكومة جديدة. هل سلام عالِمٌ بكل كفاءات البلد الجديّة، وفي كل طائفة؟ طبعاً لا. هذا أولاً، فضلاً عن أن الرئيس المكلّف يريد ببساطة وواقعية أيضاً رضا الزعماء والكتل النيابية لتحصيل الثقة بالحكومة، لذلك من «الضروري» أن يطلب أسماء منهم، أو يمرر الأسماء التي قد يكون اختارها هو بمعزل عنهم إليهم لنيل ثقتهم. إن شرط إعطاء الثقة من الكتل في مجلس النواب هو أن يكون هؤلاء الزعماء راضين عن الأسماء الواردة عن كل طائفة. وإلّا لا حكومة ولا ثقة. هذا هو البلد. هذه هي التركيبة. تركيبة محاصصة. تركيبة أعطني كي أعطيك. ونواف سلام يدرك أن «الشعوب» اللبنانية هي بيئة حاضنة لهذا النوع من المحاصصة ولو أنها تهاجمها وتدري أن القفز فوق «تنفيذها»، غير مُتاح بتركيبة سياسية مصلحية أفسدت النظام.
وللإيضاح أكثر: هل، مثلاً، سيكون الوزراء الذي سيعيّنهم الرئيس نبيه بِرّي أو الدكتور سمير جعجع، أو الأستاذ وليد جنبلاط أو جبران باسيل وغيرهم من الأحزاب والتيارات، بعيدين عنهم طالما أنهم سيمثلونهم في السلطة التنفيذية ووجاهتها ومغانمهما وتوظيفاتها؟ هو حلُم، نعَم حلم لن يتحقق جديّاً في لبنان قبل إلغاء الطائفية السياسية. قبل ذلك عبث. عبثٌ مهاجمة المحاصصة السياسية الباقية كيافطة مستحيلة التجسيد! ورفْعُ لوائها كل مرة لا طائل منه سوى دغدغة المواطن بمبادئ عُليا يتمناها لكنه متأقلمٌ مع غيرها كونها تحفظ «التوازن»، لا بل أضحت شرطاً لازماً لإدارة البلد، وربما تعطيله.
لا يستطيع اللبناني، أقصد المواطن، (قبل الزعامات ورؤساء الكتل النيابية) أن يوافق منذ عقود على هذا الأسلوب في تشكيل الحكومات ويتحصن بوزراء يؤيدهم، ثم يأتي الآن تحت لواء التغيير أن يرذُل المبدأ ويتهكم عليه. والعوائق أمام ذلك كبيرة وعسيرة، والكلام فيها تسلية جميلة لا أكثر قبل إلغاء الطائفية السياسية فعلاً. ثم إن المحاصصة الجارية قد لا تكون أحيانا طائفية، كأن تطرح تشكيلات نيابية أسماء لتزويرها من خارج طائفتها، لكن هذا لا جدوى منه أيضاً. وإذا حدثَ ذلك حالياً (نقول إذا!) في التسمية فالأغلب أنه محاولة من النواب التغييريين للنيل من خصومهم التقليديين لا أكثر. وليس نواف سلام في وارد السير بهذه «الآلاعيب» التي لن يرضى بها زعيم سياسي يمثل أكثرية شعبية لدى طائفته ومنطقته، والانتخابات النيابية لم يمرّ عليها الزمن. فالمحاصصة تحكم لبنان وستستمرّ للأسف الخالص.
غير أنّ تعبير المحاصصة السياسية الذي يتلألأ على ألْسِنة الكثيرين من السياسيين والمعلّقين والكتاب في المقابلات السياسية راهناً موجّه تحديداً إلى الرئيس سلام برفض إعطاء الرئيس بري، ومن خلفه الطائفة الشيعية، وزارة المال. فالمقصود بالمحاصصة عندهم جهة سياسية معلومة ولو أن السياق موجه في العموم (ولكنْ لتسمع الكِنّة الشيعية!) على «التوقيع الثالث» الذي يطالب به رئيس المجلس للشيعة، على خلفية أن كل مشروع في الدولة سيُصرَف عليه مال، ويوقّعه رئيس الجمهورية الماروني، ورئيس الحكومة السنّي، ينبغي أن يكون له توقيع ثالث شيعي حسب التركيبة العددية اللبنانية برأي برّي، وتالياً يصبح رئيس المجلس النيابي الشيعي شريكاً في العمل التنفيذي على الأرض في لبنان كون وزير المالية من اختياره. وهذه هي الطوائف الأساسية الكبرى في البلد، فلماذا تكون اثنتان في التوقيع ولا تكون الثالثة؟
نعلم أن هذا «التبرير» غير مقبول في لبنان منذ سنوات وهناك دعوات «حارة» لتجاوزه لأنه يتجاوز فصل السلطات، غير أن مبدأ المطالبة به يجد له حيّزاً لدى الرئيس برّي والطائفة الشيعية تحت بند المحاصصة في إدارة البلد.
عدنا إلى المحاصصة التي هي في الأساس مرض يمتد في كل مفاصل الدولة ولا نجاة منه من دون التخلّي عن الطائفية السياسية. وثمة من يقول متوسّعاً إن لبنان من رئيس جمهوريته إلى قائد جيشه إلى حاكم بنكهِ المركزي إلى.. إلى.. من طائفة كريمة، فهل كثير على طائفة كريمة أُخرى وكبيرة أن تحتفظ لها بتوقيع ثالث في مشاريع مالية الدولة؟
إنّ المحاصصة في الوزارات طريقة عمَل قديمة في لبنان، قبل الطائف وبعدَه والكل يتبعها ويذُمّها، ينفذها بإرادته ويقول إن ذلك غصبٌ عنه. وهي الآن لا تعدو كونها شمّاعة لا بد من أن الرئيس المكلّف يضحك حين يقرأها أو يسمعها، فوَقْعُها في لبنان لا كوقْعِها في بلد أوروبي علماني قد يعرفه سلام في ترحاله الوظيفي والأكاديمي حيثُ يُحترم الشعب ولا يساق قطعاناً حسب ديانته أو طائفته أو منطقته!
حين كان الجدل في البلد قائماً ليس قاعداً قبل ثلاثين عاماً حول خطأ المحاصصة السياسية في وظائف الدولة قال الرئيس بري «أنا مع إلغائها فوراً إذا وافق الآخرون».. ولم يوافقوا، فزاد بري على طريقته «فإذن ع السكين يا بطيخ»، حتى وصل السكين إلى وزارة المالية!
ولعلّ من الفكاهة بمكان تناقل بعض مصادر المعارضة السابقة أن اللجنة الخماسية العربية الدولية أخطرَت سلام بعدم رضاها عن إسناد وزارة المالية للشيعة. فإذا كان هذا صحيحاّ فهو تدَخّل (سافر وأهبل!) بالشؤون الداخلية التفصيلية، فضلاً عن أنه أكثر من خَدش لموقعية وحرية رئيس الحكومة.