المحاصصة السياسية تركت تمايزاً في الموقف وبين القيادات
الجمهورية محاصرة بأزمات دستورية
والقانون يخطف الأضواء من المعالجات الآنية !
بعد ٤٨ ساعة، على اللقاء الثاني في باريس بين الرئيس سعد الحريري والنائب سليمان فرنجيه، لم يخرج قرار تأييد كتلة المستقبل رسمياً، لترشيح زعيم المردة لرئاسة الجمهورية، على الرغم من تردد معلومات تفيد بأن نائب زغرتا توجه الى باريس وأجرى محادثات معمقة حول الوضع قد لا تظهر نتائجها سريعاً.
الا ان النائب فرنجيه أصبح ميالاً الى الترشح للرئاسة الأولى، بعدما اتسع التأييد الجدي له في نطاق تيار المستقبل وداخل حركة ١٤ آذار، ولم يعد يربط خوضه للمعركة بموقف أكثر ايجابية له، في صفوف ٨ آذار، أو بانسحاب الرئيس العماد ميشال عون من المعركة لصالحه، أو بصدور توصية باتفاقهما على انسحاب أحدهما لصالح الآخر.
انما مصير الجمهورية الذي وصفه الرئيس نبيه بري بالغامض، أصبح كما قال رئيس البرلمان في الثلاجة. والبلاد المستعدة لحسم الموضوع، بعد دزينة جلسات في لجنة الحوار التي يرئسها رئيس المجلس أو بعد ٣٦ جلسة نيابية، بقيت تراوح مكانها وسط معلومات توحي بأنه لن يكون للبنان رئيس جديد للجمهورية في المدى المنظور، وان على النواب انتظار مفاجأة اقليمية لم تنضج بعد ظروف اعلانها.
الا أن تطورات برزت قبل ٧٢ ساعة في الميدان السياسي، أرخت بظلالها على الاستحقاق الرئاسي، وجعلته يستعيد الأزمات السابقة.
وكان خروج الوزير السابق ميشال سماحة من السجن، بعد اعتقاله بسبب نقله أسلحة في سيارته من دمشق الى بيروت، على يد المحكمة العسكرية، نقل المعركة السياسية في لبنان، من إطارها الرئاسي، الى الاطار القانوني. وكان نزول الجماهير الى الشارع، احتجاجاً على القرار الصادر بالاجماع عن القضاء العسكري، اشارة واضحة الى وضعها في المواجهة مع النظام السوري، واضفاء الصفة الجرمية على الوزير السابق ميشال سماحة، قبل صدور الحكم عليه، كما ان تلاحم الشباب من ١٤ آذار، بمن فيهم الاعضاء البارزون في الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط أوحى باشتعال معركة داخلية في موازاة المعركة الرئاسية. وهكذا أصبحت الجمهورية داخل صراع صاخب قوامه ثلاثة مواقع:
أولاً: تراجع مبادرة الرئيس سعد الحريري، بعد تقدم واضح على صعيد ١٤ اذار، خصوصاً بعد الحديث عن اجتماع ايجابي عقد بين المرشح فرنجيه والنائب الشيخ بطرس حرب.
ثانياً: استعمال الكوابح في توجهات البطريرك الماروني مار بشارة الراعي، اثر الدعم الذي أعطاه لمبادرة الترشيح الصادرة عن الرئيس الحريري.
ثالثاً: الموقف الملتبس، نوعاً ما، والصادر من رئيس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ سامي أمين الجميل، والذي حدد فيه الموقف الكتائبي بأنه برنامج المرشح وتوجهاته السياسية، لا مع شخصيته، وكأنه يريد من النائب سليمان فرنجيه أن يبتعد قليلاً عن ٨ آذار، ويقترب عملياً من ١٤ آذار، واعلان ابن عمه النائب الشيخ نديم بشير الجميل، رفضه لأي مرشح من ٨ آذار، وتصلبه، مع الافراج عن سماحة، في تأييد أي مرشح من ٨ آذار، ولو قال إنه مستعد للسير الى منتصف الطريق بين ٨ و١٤ آذار.
والسؤال المطروح الآن: هل يعود جمهور ١٤ آذار، الى مبادرة الرئيس سعد الحريري بتسمية سليمان فرنجيه، او الى إذكاء المبادرة الاقليمية – الدولية، معطوفة على المبادرة الداخلية الصادرة عن زعيم المستقبل، وبلورة موقف صريح من ترشيح ١٤ آذار للنائب فرنجيه جدياً الى ترشيحه رسمياً، أم ان تطورات اطلاق سراح الوزير السابق ميشال سماحة تعيد النظر في مجمل ما حدث قبل ذلك؟
ويتخوف كثيرون من انتقال المعركة الى سجن تخضع داخله الرغبة الجامحة الى انتخاب رئيس جديد الى حلقة من حلقات الجمود السياسي في البلاد.
والقلق الذي يتربص بالحالة السياسية، ناجم من حالات ثلاث، أولها الرجوع الى حقبات سابقة، تتحول فيه السياسة المعتمدة الى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، وثانيها الرضوخ السياسي للقوة المعتمدة من قبل القوى الاسلامية المتطرفة، مثل حركة داعش والنصرة والقاعدة وانحسار الدور الاعتدالي الذي جسّده التوجه الاسلامي المتعاطف مع اليسار السياسي، في حقبة السبعينات، وثالثها سيادة الواقع المتمثل بالنازحين السوريين الى لبنان والأردن والعراق، كما ظهر سابقاً عند الفلسطينيين، في عصر منظمة التحرير الفلسطينية أو كما كان يسمى ب عصر ياسر عرفات وهيمنته على القوى الاسلامية وعلى الأحزاب اليسارية ايام الزعيم كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وعباس خلف وجورج حاوي.
والشيء الذي تبدّل الآن، هو ضمور اليسار السياسي الذي جسّده في بعض المراحل، الحزب الشيوعي بزعامة نقولا الشاوي الى حد الانحسار في عهد خالد حداده، والمتعاطفين مع تلك الحقبة من أمثال كريم مروة وتوفيق سلطان، الى أن كان بروز الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في ايام الوصاية السورية التي استطاعت احتواء اتفاق الطائف بعد مشاركة سوريا في الحرب العربية التي تضافرت من اجل اخراج الزعيم العراقي صدام حسين من الكويت، وكان الثمن الباهظ لتلك المعادلة، ترك سوريا وحدها، ترعى تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني، منذ العام ١٩٨٩، والجسارة السياسية التي وصلت الى حدود اغتيال الرئيس رفيق الحريري في قلب بيروت التي اعاد تعميرها بعد حرب استمرت سبعة عشر عاماً، واطلاق يدها في عدم تنفيذ اتفاق الطائف أو في تنفيذ ما تريد تنفيذه منه.
كان من الطبيعي، في اطار البحث عن الذات، أن تسعى الشعوب التي عانت الاستعمار والكبت وطمس الذاكرة الى استكشاف هويتها الخاصة على أساس وحدة الأرض، والعرق، واللغة، والدين، والتاريخ، أو كل ذلك معاً. لكن النظام الطائفي في لبنان، لم يسعَ الى تكريس هوية وطنية جامعة، وربما لم تكن له رغبة في ذلك، فعمدت كل من الفئات الى المناداة بهوية طائفية أو متخيّلة خاصة بما لتبرير مشروعها الفئوي الخاص. فبدلاً من السعي الى استقطاب ولاء المواطنين والتفافهم حول دولة حداثة صاحبة مشروع طموح يجمع طوائفها في لحمة حياتية تحدّ من التناقض أو التباين، بادرت أطراف من لبنان أو من محيطه، عن جهل أو عن قصد، الى التنظير بضرورة التطابق والتماثل بين المواطنين، المعبّر عن فكر شمولي، يراهن على مجتمع متخيّل لا يعترف أحده بالآخر ولا يقبله مختلفاً. فكان من الطبيعي أن يولّد هذا الفكر، هواجس متبادلة بين الطوائف والمذاهب قادت، كل منها، الى إنكار حق الآخر في الاختلاف والتمايز والى اشاعة الخوف من خطر الذوبان أو التهميش.
وقد أدت سياسة التهرّب من الواقع، الى المشهد المأسوي الحالي الذي يفرض نفسه بفظاظة، حيث تنامت مشاريع الاستحواذ والاستئثار الفئوية، بشكل علني ومن دون حياء، وارتفعت وتيرة الخطاب المذهبي والطائفي، واستشرست الكيانات في تخوين بعضها البعض، في غمرة انتعاش الفكر الماضوي التكفيري أو الاستحواذي أو الاقصائي الذي يهدف الى تجهيل خصوصيات الآخر ورفض وجوده، خلافاً للخطاب المعلن الذي يدّعي نقيض ذلك، مما أوصل البلاد الى التنكّر لتعددية مجتمعنا الى الجدار المسدود، لأن التجييش المذهبي والطائفي سلاح ذو حدين، يطاول الجميع، ولأن أحداً لا يستطيع الغاء أحد، ولأن لا فرصة جدية لتخطّي الأزمة الوجودية ما لم نسلّم، من دون تحفّظ، بتعددية مجتمعية.
ويقول مفكرون سياسيون انه في الفترة الانتقالية التي تلت مؤتمر الطائف، ساد الاعتقاد لدى الرأي العام أن موافقة الأطراف الاقليميين على انهاء الحرب تعني الموافقة على استعادة الوطن وقيام الدولة القادرة على تحقيق الحلم اللبناني بالرخاء والحرية والثقافة. كان اللبنانيون، بمن فيهم المتحاربون، جاهزين للشراكة في وحدة حياتية حقيقية، في كنف دولة مدنية تعددية محررة من التحاصص والطائفية. وكان الرئيس رنيه معوض شديد الثقة بقيام الدولة المدنية المنجزة خلال فترة ولايته.
كما ردد أكثر من مرّة نزار يونس، لانه كان المطلوب ان يوفّر تطبيق المبادئ الميثاقية بدقّة ونزاهة المناخ لممارسة رئيس الجمهورية دوره في رئاسة الدولة ووحدة نصابها، ولاطلاق الحوار الوطني في كنف أجواء من اللحمة المستعدة، ولكن ما حدث بعد ذلك من مجريات، انعكس على الفضاء السياسي لجهة إباحة الممارسات الطائفية، وتفشّي الطروحات الفئوية، والتغاضي عن اغتصاب المجال العام وتحويله بفظاظة الى الطوائف، وافساد المجتمع بشكل ممنهج لتخليه عن مراجعة الخلقية، وعن دوره كسلطة مضادة.
وبدلاً من اطلاق الحوار بين اللبنانيين حول المشروع البديل للنظام السياسي الطائفي، عمد فريق من غلاة الطائفيين الى توظيف إلغاء الطائفية السياسية سلاحا طائفيا بامتياز، للتهويل على الفريق الآخر، ما أدى عن طريق الفعل ورد الفعل الى تثبيت مواقع الفريقين وتكليس المواقع الطائفية وانتعاش الهواجس الدفينة من نيّات مبيتة بإلغاء الطائفية السياسية الراسخة في ذهن اللبنانيين بقرار فئوي أو بالحيلة أو بالإكراه.
ومن نافل القول ان إلغاء الطائفية السياسية، كما يرى نزار يونس في كتابه جمهوريتي، يشترط التوصل من طريق الحوار الى استشراف الصيغة الكفيلة بتجاوز النظام الطائفي، واقتناع أطراف المعادلة الوطنية كافة بضرورة التطبيق الفعلي، لا من الناحية النظرية فحسب، بل لتحقيق الغاية من فلسفة العيش معاً، أي المساواة الكاملة بين الأفراد والمحافظة على حقوق الجماعات وعلى المشاركة في السلطة والمجال العام على قدم المساواة بين جناحي الوطن ضمن دولة مدنية زمنية محررة من القيد الطائفي.
في ظلّ الجو الضاغط الذي تمّ فيه التوافق على ميثاق الطائف وإقرار الدستور المنبثق منه، كان من الطبيعي ان يتضمن الدستور الجديد نصوصا تفتقر الى الدقة والوضوح في تحديد الصلاحيات والمسؤوليات في أحاديتها وتراتبيتها في انتظار إقرار النظام البديل من نظام المحاصصة، وكان المطلوب تعديل أو تقديم بعض النصوص أو الأحكام الدستورية خلال الفترة الانتقالية في انتظار التوافق على النظام السياسي البديل، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. لقد أنتج الدستور الضبابي، الخارج عن توجهاته العامة عن واقع النظام الطائفي، سلطة متعددة الرؤوس وعاجزة عن توحيد نصابها أو قرارها، فكان لا بد لها في مرحلة معيّنة من استعارة مرجعية خارجية لممارسة دور الضابط لادائها.
ويتميز لبنان بتعدد الأديان والمذاهب على رقعته الضيّقة، ولكنه ليس الوطن الوحيد الذي يسوده التنوّع الديني. المشكلة ليست في التنوع، ولكنها تكمن في الالتباس الحاصل بين الدين والوطن، وبين الايمان والتعصّب. اللبنانيون أبناء الوحدة الحياتية التي تجمع بينهم في المعاناة والتطلعات، ولم يكن عجزهم عن بناء الدولة وليد تخلّفهم أو لنقص ولائهم الوطني، ولكنه – وبإقرار الجميع – نتيجة لنظام المحاصصة الذي عطّل قيام الدولة.
ويضيف يونس: لسنا أول من شكا نظام المحاصصة بين الطوائف. فنقد الطائفية قديم في تراثنا الثقافي وملازم لتاريخنا منذ اعلان دولة لبنان الكبير، وحتى يومنا هذا. وهو نقد لا يقتصر على حزب أو اتجاه، بل هو شائع في الأوساط الثقافية، وكذلك لدى النخب السياسية، ما جعل منه معيارا أخلاقيا يضاف الى مضمونه السياسي. ويندر صدور خطاب يقارب الحياة السياسية خال من المحاكمة الأخلاقية للطائفية، والقلّة القليلة التي تدافع عن استمرار النظام الطائفي تجد نفسها مضطرة الى ايجاد المسوّغات للدفاع عن مواقفها كي لا تتّهم باللاأخلاقية. من هذه المسوّغات أن مجتمعنا لا يزال متخلفاً وقاصراً عن التحرر من العصبيات الطائفية، وأنه لا بد من التمسك بهذا النظام لأسباب واقعية، في انتظار ان يتطور المجتمع لينبذ مفاهيمه البالية. ويجد هؤلاء في ما يحدث في جوارنا، وفي العالم العربي عموماً من تمزّق وصراعات مذهبية وقبلية، خير دليل على ذلك. ومن بين المسوّغات أيضا، ان مجتمعات أخرى، متعددة الأديان والأعراق واللغات، تشهد أنظمة يتفق فيها على تقاسم الحصص والمغانم.
وفي الأساس، اننا في لبنان نواجه في الواقع أزمتين، واحدة في الاجتماع، وهي أزمة نظامنا السياسي المستحيل، وأخرى في العقل Une crise dans la tête باستعارة عبارة الفيلسوف الفرنسي فرنسوا شاتليه. واذا كانت أزمة العقل وليدة النظام المعيب، يغدو من غير الممكن مواجهة أزمة الاجتماع ما لم نوفّر السبل لحل أزمة العقل، كما يقول نزار يونس.
اذا كان هذا النظام يؤدي الى نوع من انفصام في الشخصية اللبنانية بين الفعل والقول، فإن تجاوز ذلك يبدو أمراً مستحيلا ما لم يطرح مشروع آخر، لا يتناقض مع واقع مجتمعنا، ولكنه يوفّر نظاما سياسيا يتجاوز النظام الطائفي من دون أن يلغي الطوائف، ويفصل بين الشأن السياسي المخصص للمواطنين في الدولة، والشأن الايماني المخصص للرعايا في الطوائف.
من المسلّم به، ان تقاسم السلطة حصصا بين الطوائف حال دون قيام الدولة، ويحول دون امكانية تحقيقها. ومن الثابت في التجربة والتحليل، ان فرضيّة قيام مرحلة انتقالية في توزيع الأنصبة قد فشلت تماما، إذ ان الدخول في هندسة التقاسم يثير دينامية تضفي الديمومة على التقاسم بين المواقع الطائفية، وتقود الى جعلها أساسا بنيوياً للمكاسب والمغانم وللتعبير السياسي المحصور في الصراع على السلطة. وهذا التقاسم يشلّ الفضاء السياسي برمته، ويؤدي الى تكلّس الطبقة السياسية واعادة انتاجها وإطالة عمرها.
ويتساءل: هل نحن محكومون بمأزق لا مخرج منه، يفرض علينا الاستمرار في نظام المحاصصة الطائفي المدان، والبحث المستحيل عن مواطنية مجردة من أي انتماء لجماعة أو مكان، وذلك من أجل تبرير عدم التخلّي عن الهواجس القائمة.
ان الحل الذي يقود الى صيغة سياسية لن يتوافر ما لم نوافق جميعاً على مقايضة مشاريعنا الفئوية الخاصة بمشروع وطني جامع، نقايض السراب الذي تتغذى منه ذاتنا الطائفية بمشروع مستقبلي يستنهض ذاتنا الطائفية لمشروع مستقبلي يستنهض ذاتنا الوطنية. ان التساوي في نيل المطالب الخاصة حق، ولكن الأفضل منه التساوي في تحقيق انجاز تاريخي لمستقبل أبنائنا على هذه الأرض، حيث تصبح المساواة واجباً وطنيا وأخلاقياً.