لم يعد الحديث عن حقوق المسيحيين في لبنان مجرد «ترف» سياسي يستحضره بعض الزعماء عندما تضيق بهم سبل التسويات وتشتدّ الأزمات من حولهم، بل تحولت إلى معركة وجودية تتعلق بالكيان المسيحي في المشرق ككل، الذي بقي لبنان أحد أهم ركائز وجوده في المنطقة، خاصة بعد الحروب الطائفية التي أصبحت تُشنّ تحت راية «الدين» و«تكفير» المذاهب التي تختلف مع «قاطعي» الرؤوس والداعشيين.
لا شكّ أن كلّ مسيحيّي المنطقة يشعرون بالخوف على المصير والوجود، وخاصة بعد الذي أصابهم في العراق من ذبح وسبي وتهجير، وما يتهدد أيضا مسيحيي سوريا فيما لو تم تنفيذ المخطط الذي تعمل عليه بعض الدول الإقليمية في السرّ، أي تهجير المسيحيين من المنطقة إلى دول أوروبية أوأميركية في محاولة لإفراغ الشرق من مسيحييه وهم «ملح الأرض»!
تقول مصادر مسيحية مقربة من بكركي إن إستهداف المسيحيين في المنطقة هو خطر جماعي وهمّ مسيحي مشترك يجب أن تتصدى له الكنيسة المسيحية بكل أنحاء العالم، وهو ما إستشعره الحَبر الأعظم منذ فترة وأطلق نداءات إستغاثة كثيرة لزعماء العالم كي يلتفتوا إلى ما يتعرض له المسيحيون من خطر الإضطهاد والتهجير من أرض أجدادهم، ولكن لم تكن هذه النداءات تلاقي الصدى المطلوب والدليل هو ما تعرّض له المسيحيون في العراق وسوريا، أما في لبنان ـ تتابع المصادر الكنسية – فإن الأمر يختلف إذ أن الحقوق «السياسية» للمسيحيين هي التي تتعرض للإضطهاد، وهو أمر ليس جديدا إنما عهده منذ توقيع إتفاق «الطائف» الذي «سلب» المسيحيين صلاحيات أهم مركز سياسي كانوا يتمتعون به في المنطقة، بعدما تمّ «ترحيل» بعض هذه الصلاحيات إلى الحكومة «مجتمعة»، ولكنها حقيقة إنتقلت إلى شخص رئيس الحكومة، وهو ما جعل من المنصب الأول أي رئاسة الجمهورية ـ منصبا «فخريا» مقتصرا على ممارسة بعض المراسيم «التشريفية» التي لا تستطيع التحكم بأي سلطة أو تنفيذ أي قرار مهم في البلد دون حصول توافق مع رئاسة الحكومة والبرلمان . تتابع هذه المصادر بالقول إن الأزمة الحالية التي يمرّ بها لبنان هي خير دليل على ضعف القرار المسيحي «العاجز» عن إيصال مرشّح إلى سدة الرئاسة بذريعة عدم وجود «إجماع» مسيحي على شخصية محددة ـ وهو وإن كان كلام حق، يُراد به باطل- حيث لم يعد للمسيحيين منذ عقود القدرة على تعيين أيّ شخص بأيّ مركز ـ حتى ولو كان من ضمن الحصة المسيحية ـ دون وجود توافق من باقي الطوائف عليه، وهو عكس ما يحصل عند الطوائف الأخرى التي تختار شخصياتها بما يتناسب مع رؤيتها ومصالحها من دون الإلتفات إلى رغبات أو تطلعات بعض المسيحيين.
وفي نفس السياق- تتابع هذه المصادر- يأتي كلام البطريرك الراعي عن ضرورة معالجة موضوع «الشغور» الرئاسي الذي يُضعف من وجود وموقف المسيحيين في لبنان، ومن هنا أتى «قلق» الكنيسة في «الفاتيكان» على موضوع الرئاسة لأنها تتعلق بطريقة ما بالحفاظ على الحقوق المسيحية في لبنان، فكانت الداعمة لتحركات بكركي الراعية للحوارات المسيحية ـ المسيحية لعلها تفضي إلى نتيجة ما تساهم في «حلحلة» عقدة إنتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، كما أن «قلق» الفاتيكان لم يقتصر على وضع المسيحيين في لبنان بل تعدّاه إلى أحوالهم في سوريا، حيث كانت الزيارة «الرعوية» التي قام بها البطريرك الراعي إلى دمشق محطّ ترحيب من قبل الكنيسة العالمية التي تنظر إلى الأمور من منظار مختلف عن الزوايا الضيقة التي قيّم فيها بعض المسيحيين اللبنانيين هذه الزيارة، ولم يضعوها في خانة «وحدة» الصفّ المسيحي وحماية وجوده في المنطقة التي يمثل فيها البطريرك الراعي راعيا لشؤون المسيحيين ليس في لبنان وحسب إنما في المشرق وسائر إنطاكية.
وتختم المصادر الكنسية بالقول، إن ما يحزن بكركي هو إرتفاع بعض الأصوات المسيحية والتي تؤثّر سلبا في قضايا وحقوق المسيحيين من أجل مصالح شخصية أو حتى «كيدية» غير مدركة للخطر الحقيقي الذي يتهددهم في المنطقة كلها، ولهذا أخذت بكركي على عاتقها مبادرة «إستعادة الدور» المسيحي الفاعل عبر جعل إنتخاب رئاسة الجمهورية الهدف الأول و«الشعار» الذي ترفعه في كل تحركاتها ولقاءاتها.
أما الطرف الآخر الذي يحمل لواء إستعادة الحقوق المسيحية فهو العماد ميشال عون وإن كانت منطلقاته مختلفة عن رؤية بكركي الكِنسية ـ الروحية ومن ثم السياسية، حيث تقول مصادر قريبة من التيار الوطني: إننا نشعر بالمظلومية تجاه الممارسات التي تُساق بحقنا، مع تجاهل الحجم التمثيلي الذي نشكله داخل الساحة المسيحية، هذا الغبن هو ما نواجهة بسلاح الحق ـ الذي ينعته بعض المسيحيين ـ «بالتعنت»، وهم من حيث لا يعلمون إننا جميعا خاسرون، إذا ما إستمرّ «الإجحاف» بحقوق المسيحين – تحديدا السياسية ـ والمستمر منذ أكثر من 3 عقود نتيجة تسويات ومساومات سياسية ـ شارك فيها للأسف بعض المسيحيين – وهو ما لن نقبله بعد اليوم حتى ولو أضطررنا «للمواجهة» لأننا أصحاب حق نحتمي بالدستور والقانون الذي وافقت عليه كل الأطراف، ولن يستطيع أي فريق «إلغاءنا» بذريعة «التعطيل» التي تنطوي على الخبث والدهاء، ووقف مصالح الناس التي كنّا أول المدافعين عنها في وجه الفساد والمحسوبية لإننا نؤمن أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»!
وختمت المصادر العونية بالقول، نقف مع بكركي بخطّ واحد لحماية «الوجود» المسيحي ومستعدون لتجاوز الخلافات من أجل ذلك، حتى لو أضطررنا إلى المطالبة بمؤتمر تأسيسي جديد يعيد الحقوق المسلوبة إلى أصحابها ويقوّم «اعوجاجاً وغبناً» لم يعد السكوت عنهما مشروعا!