IMLebanon

«الطائفية السياسية» علة لبنان الثانية

 

لقد بدأت كتابة سلسلةٍ من المقالات، التي هدفها تشخيص الأمراض التي يعاني منها لبنان، ففي المقالة الأولى، كنت قد تكلمت عن العلة الأولى وهي «الديمقراطية التوافقية»، التي تعتبر أحد أهم العلل التي نعاني منها، أما اليوم، ومن خلال هذه المقالة، سوف أتناول العلة الثانية، التي هي جوهر المشكلة اللبنانية، التي ألغت مفهوم النظام السياسي، وكرست مفهوم المنظومة الطائفية، وهي أحد أوجه النيوليبرالية، أي الوجه الجديد لليبرالية السياسية المتوحشة، وهي «الطائفية السياسية»، أحد أهم الأعراف المكرسة في المجتمع السياسي، ولكن كيف أدت هذه الطائفية إلى إضمحلال الدولة ككيانٍ ومجتمع؟

 

منذ نشأة لبنان تحديدًا بعد ثورة طانيوس شاهين سنة 1860، والتي عُرفت آنذاك بثورة الفلاحين، كانت الدولة العثمانية في حالة متعبة، على جميع الأصعدة، حينها سميت بالرجل المريض، وفي طبيعة الحال، كانت الدول الأوروبية، تسعى جاهدةً لزرع بذور الشقاق داخل الدولة العثمانية، من خلال استغلال الامتيازات الأجنبية، والصراعات الطائفية، من هذا المنطلق تم تأسيس كيانٍ جديد طائفي عُرف بمتصرفية جبل لبنان، هذا الكيان كان عبارة عن بقعةٍ جغرافيا تُجمع فيها طوائف متصارعة. ثم في سنة 1920، هذا الكيان تم توسيعه حتى وصلت مساحته إلى 10452 كلم، ولكن وكما هو معلوم، أن هذه الدولة كانت قد أُسست خصيصاً للطائفة المارونية، فإن الإستعمار الغربي كان هدفه تفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ وقطرياتٍ متصارعة، غير قابلة للتوحيد مجددًا، وتحويل المجتمع الواحد إلى مجتمعاتٍ غير قابلة للإندماج ثقافيًا ولا عرقيًا ولا تاريخًا، كانت البداية في زرع أفكار القومية في تركيا، التي أسست نهج والقومية الطورانية، التي عادت العرب من خلال الجمعيات الماسونية، أما في الشام وجزيرة العرب، كان قد انتشر العداء ضد الأتراك، من خلال الأفكار القومية العربية التي نادت بالتحرر، وتكوّن لبنان بسبب تلك الحملة التحررية القومية.

 

لقد تم وضع الدستور الذي لم ينص صراحةً على طائفية النظام وهيمنة فريقٍ على آخر، ولكن كانت سلوكيات النخب كلها، تؤكد هذه السلوكيات تمامًا، فالمسلمون كانوا لم يقبلوا فكرة لبنان الوطن النهائي، وأدى ذلك إلى نوع من الإنعزال السياسي من خلال عدم قبولهم بلبنان ككيان سياسي مستقل، وفي المقابل، حرصت فرنسا على تمكين الموارنة من القيادة، من خلال إعطائهم أعلى مراكز الدولة، وإعطائهم أهم الشركات الاقتصادية. ثم جاء إتفاق رياض الصلح وبشارة الخوري في سنة 1943، الذي رسخ الأعراف الطائفية وكرس الطائفية السياسية، حينها أصبح رئيس الجمهورية مارونيًا، ورئيس مجلس النواب شيعيًا، ورئيس مجلس الوزراء سنيًا، طبعًا هذه الاعراف، لم تقتصر على هذه المناصب فقط، إنما قد تسربت تلك الآفة السياسية والمرض المزمن إلى كافة مواقع الدولة، فكانت أولى نتاج هذه الطائفية والهيمنة المارونية هي ثورة 1958، وهذه الثورة قد عرت وكشفت هشاشة التركيبة المجتمعية، وانصهارها في دولة واحدة ومجتمع واحد، فكان المجتمع وقتها منقسما إلى فريق ناصري قومي عروبي، والفريق الآخر يؤيد الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلف بغداد، ثم تفاقمت الأوضاع في فلسطين، وانتقلت حركة فتح إلى لبنان، حينها بدأت السنية السياسية، حيث كان نتاج هذه الطائفية السياسية حرب أهلية دامت خمسة عشر عامًا.

 

أما اليوم، فإن الإرهاصات التي يعيشها المجتمع السياسي، من فسادٍ إداري ومالي وإنقسامٍ حاد بين الطبقة السياسية فيما بينها، أدى إلى إنقسامٍ أفقي في السياسة, وكان له تأثير على الطبقة الاجتماعية بشكل عامودي، فهذه الانقسامات هي نتاج تلك الطائفية المتجذرة منذ قرابة 160 سنة، هذه الطائفية السياسية ساهمت كثيرًا في عدم كفاءة رجال الدولة، لأن الدخول إلى الدولة يقوم على تقسيماتٍ طائفية وليس بناءً على الكفاءة الفكرية أو علمية، وطبعًا تلك المعضلة، أدت إلى إتخاذ قراراتٍ إدارية غير مستندة إلى خبرةٍ، أو إلى حقلٍ معرفي، إنما مستندًا على الأعراف الطائفية ضمن المنظومة اللبنانية.

 

من جهةٍ أخرى، تلك الطائفية العفنة عززت من قوة المنظومة وألغت النظام كليًا، اليوم فإن لبنان يُدار من منظومة تستعمل الطائفية كوسيلة للسيطرة على جمهورها، من خلال تهييجهم من أجل الحصول على مكتسباتٍ شخصيةٍ تارةً، وسياسيةً ضيقة تارةً أخرى، فليس هناك نظامٌ سياسي في لبنان كمفهومٍ علمي، يقوم على مبدأ المعارضة وموالاة إطلاقًا، فلا يسقط النظام بمجرد سقوط رئيس الجمهورية، طبعًا إن سقط في الشارع، فإسقاطه يحتاج إلى موافقة البطركية أو الإكليروس الماروني، كذلك الحال لرئاسة مجلس النواب ورئاسة الحكومة، إن عملية الإسقاط من أصعب ما يكون، لأنهم مسيطرون من منظومةٍ، تُدار من الطوائف كلها. وهذه المنظومة الطائفية ألغت مفهوم الإدارة المركزية، وكرست مفهوم الجهوية التقدمية الشرسة، التي صنعت بشكل غير مقونن، فيدرالية فائقة الصلاحيات تدار من الأحزاب السياسية الطائفية، ولكنها في الواقع هي أشبه بكونفدراليات متصارعة.

 

معضلة أخرى، هي التشكيلات القضائية والأمنية والضباط والمدراء العامون، الذين يتم تعيينهم حسب الإنتماء الطائفي، وهذه التعيينات تؤدي إلى إنتماء هؤلاء إلى الجهة الطائفية الداعمة وليس إلى الدولة، حينها يتم تعطيل القرارات الإدارية، بسبب الصراع بين الرئيس والمرؤوس، اللذين ينتميان إلى طائفتين مختلفتين.

 

الطائفية السياسية هي مرضٌ مزمن، يعاني منه لبنان ككيانٍ سياسي وككيانٍ من المفترض أن يكون مجتمعي وليس مجتمعات، ولكن بسبب هذه العلة والآفة، لم يكن بيومٍ من الأيام، نظامًا سياسيا أنما منظومة طائفية تتصارع فيما بينها، لتقاسم الأرباح والمناصب من أجل ترسيخ سطوتهم السياسية والإجتماعية، فلا خلاص في لبنان، إلا من خلال تطبيق أحد نصوص الطائف الذي يقول بإنهاء الطائفية السياسية، التي هي أول المداخل إلى الدولة المدنية الحديثة.