بدل الذهاب إلى خيار توسعة الحرب، في إثر الاغتيال الاستراتيجي الذي نفّذته إسرائيل في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، للقائد الفعليّ لحركة حماس صالح العاروري، أبدى الأمين العامّ للحزب الانفتاح على خيارات التسوية السياسية مع إسرائيل.
فمن خارج السياق الميداني للحرب، قال نصرالله إنّ لبنان «أمام فرصة حقيقية لتحرير كلّ شبر من أرضنا اللبنانية ومنع العدوّ من استباحة حدودنا وأجوائنا.. وتثبيت معادلات الردع التي أسّست لها المقاومة».
ليس خافياً أنّ كلامه يحمل في طيّاته تجاوباً مع طروحات ناقشها الموفد الأميركي آموس هوكستين ودبلوماسيون أميركيون آخرون، وهي ضمن أجندة جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي يزور المنطقة في محاولة لمنع توسّع حرب غزة أكثر.
يتزامن كلام نصرالله مع زيادة إسرائيل جرعة الاستهداف الاستراتيجي للحزب وحلفائه في لبنان، وتوسعة رقعة القصف الإسرائيلي إلى مناطق الجنوب الساحلية حتى مشارف مدينة صيدا، مضافة إلى الاستهداف الأوّل من نوعه في الضاحية منذ عام 2006، بالتوازي مع ضغط سياسي إسرائيلي يوميّ كانت آخرُ حلقاته موقفاً من تل أبيب يهدّد بأنّ نافذة الحلّ السياسي لمشكلة الحزب تكاد تقفل.
أميركا بدأت «الردّ» على «شغب» إيران
كما جاء هذا الكلام في لحظة «تمشيط» أميركي في المنطقة، ينطوي على استعدادات للمواجهة العسكرية مع «الشغب» الإيراني عبر أدوات طهران في سوريا والعراق واليمن. عبّر عن ذلك إغراق الجيش الأميركي 3 قوارب تابعة لميليشيا الحوثي حاولت الاستيلاء على سفينة شحن غرب ميناء الحديدة اليمني. كما عبّرت عنه تصفية مسيّرة أميركية، لطالب علي السعيدي الملقّب بـ»أبي تقوى»، المسؤول العسكري لـ»حركة النجباء»، التي تنضوي ضمن فصائل «الحشد الشعبي» الموالية لإيران.
مهّد نصرالله لهذا التموضع في خطابه ما قبل الأخير، حين استفاض في الحديث عن استقلالية قرار الحركات المقاومة عن إيران، مشدّداً على الدور المركزي للمؤثّرات المحلّية في صناعة قرار كلّ فصيل من فصائل المحور.
ولئن صحّ ذلك جزئيّاً، فإنّ ما عبّر عنه نصرالله هو تموضع استراتيجي في لحظة استراتيجية لا يمكن في الواقع أن يكون منفصلاً عن حسابات إيران، التي لا تريد أن تجد نفسها منخرطة في صراع مسلّح مباشر أو أن ترى الحزب يواجه مصير حماس وفق معادلات التفوّق العسكري الجديدة التي رسمتها حرب غزة والردّ الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023).
فبعد اغتيال العاروري في بيروت ومقتل أحد أبرز قادة الحرس الثوري في سوريا رضى موسوي كان لافتاً موقف الحرس الثوري الإيراني الذي وصف عمليات الاغتيال بأنّها «محاولة إسرائيلية لدفع المقاومة للوقوع في خطأ استراتيجي بالحسابات»، مضيفاً أنّ «الصبر الاستراتيجي للمقاومة والحزب، لن يخرج عن إطار العقلانية والمنطق».
الحزب يتموضع مع مبادرة أميركا
لماذا اختار نصرالله هذا التموضع التسوويّ مع إسرائيل عبر المبادرة الأميركية تزامناً مع أعنف معركة تتعرّض لها حماس في غزة وأوسع استهداف يطال كلّ مكوّنات محور المقاومة؟
أوّلاً: يبدو تغليب منطق الحلول السياسية، كما جاء في كلمة نصرالله، جزءاً من استراتيجية إيران الطويلة المدى. فهي تسعى إلى تجنّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل وأميركا، بغية الحفاظ على الموارد العسكرية لمعارك أكثر أهمية في المستقبل، كالدفاع المباشر عن إيران لو تدحرجت الأمور بهذا الاتجاه أو حماية البيئة الاستراتيجيّة الحاضنة للبرنامج النووي الإيراني قيد التطوير.
عدا عن هذين البندين الاستراتيجيَّين، فإنّ تقويم الأثر الاستراتيجي للاستهدافات الإسرائيلية حتى الساعة بالنسبة لكلّ من إيران والحزب لا يفيد بأنّ ما تقوم به إسرائيل يضعف قدرات الحزب بشكل استراتيجي أو يهدّد بتقويض مرتكزات شرعيّته الشعبية والسياسية. وربّما يعتبر الأمين العامّ للحزب أنّه في لعبة الموازنة بين أدواره العسكرية والسياسية، يمتلك فرصة لإقناع اللبنانيين بأنّه يتجنّب توريطهم في صراع واسع النطاق ويمهّد لنفسه لكسب المزيد من الشرعية السياسية التي قد يحتاج إليها لاحقاً، خاصةً في ظلّ التحدّيات السياسية والاقتصادية المعقّدة للبلاد.
ثانياً: من خلال الحديث عن «فرصة تاريخية» للتحرير ومنع انتهاك السيادة اللبنانية، يسعى نصر الله إلى إبراز دور «ميليشيا الحزب» كمدافع عن لبنان ضدّ «العدوان» الإسرائيلي، في حين أنّه هو من بدأ هذه المعركة يوم 8 تشرين الثاني 2023 ومن جانب واحد.
بيد أنّ سردية «الفرصة التاريخية» التي قدّمها قد تفيد في التشويش على الوقائع وربّما تسعف في حشد الدعم وتعزيز هويّة الحزب باعتباره لاعباً رئيسياً في محور المقاومة ضدّ إسرائيل، بعدما تحوّل إلى شريك في كلّ الحروب الأهلية المندلعة في المنطقة لا سيما سوريا واليمن والعراق.
ثالثاً: يمكن اعتبار موقف نصرالله مقدّمة للتهرّب من المسؤولية في حال نشوب حرب يحاول الحزب تفاديها بكلّ الوسائل. ومن خلال تقديم الحزب ككيان يسعى إلى الاستقرار والسيادة في الإطار الوطني العامّ بدلاً من كونه أحد عناصر الصراع الإقليمي، يسعى نصرالله إلى إدارة «صورة» حزبه في لحظة معقّدة ومتفجّرة في الشرق الأوسط. وقد يكون في حساباته، من خلال المرونة الاستراتيجية التي يبديها، أن يستخدم التجاوب مع العروض الأميركية للحلّ لسحب بساط التأييد والدعم الأميركيَّين غير المشروطين لإسرائيل في أيّ حال نشوب الحرب.
الأهمّ، لم يفصح نصرالله عن الأثمان التي سيقبل بدفعها في مقابل انتزاع ما وعد به من «ترسيم للحدود وتحرير كامل للأرض»، وما إذا كانت هذه الأثمان كافية لإسرائيل في عالم ما بعد 7 أكتوبر. يسعى نصرالله إلى تأبيد الحسابات التي بناها في الجنوب منذ 2006، وتسعى إسرائيل إلى تغييرها بالكامل. هنا لبّ الموضوع. ما يفوته أنّ ما كان يمكن لإسرائيل أن تقبل به قبل حرب غزة لن تقبل به بعدها، فهل يملك الحزب جديداً لدرء شبح الحرب التي تلوح في أفق لبنان؟