بدت إيران كأنّها تخوض مباراة حبّية مع إسرائيل معدة لتنتهي بالتعادل، فيما تخوض أذرعتها، ولا سيما في لبنان، حروباً دامية بأكلاف بشرية ومادية باهظة. أو كأنها لعبت مسرحية هزلية فاستحقت سخرية المشاهدين والحزن على ضحايا الأذرع. أو كأنها تقول سأقاتل إسرائيل حتى آخر شيعي في بلاد العرب.
ألم يكن أكثر جدوى لمشروعها أن تقدم لذراعها اللبناني ثمن الصواريخ والطائرات المسيرة لتعويض أهل الجنوب خسائرهم المادية في البيوت والمزروعات، بدل أن تهدرها وتهدر معها هيبتها وتقدم هدية للمتطرفين في إسرائيل تنقذهم مع رئيسهم من شجب عالمي لوحشيتهم في غزة؟
الشيعية السياسية في لبنان هي الخاسر الأكبر، لأنّها بكرُ الأذرع، الأقدم بينها والأكبر سناً، المولودة قبل أن تكون الثورة الإيرانية. يقال إنّ شيعة الجنوب كانوا الرواد والسباقين في الحفاظ على العقيدة الإثني عشرية وكانوا أساتذة للإيرانيين. الغلاة منهم الناشطون في الحقل الديني لا في الحقل السياسي، ومعظمهم على معرفة محدودة في فقه الدين، تضاءل دورهم في بدايات نشوء الجمهورية البرلمانية، وكاد ينحصر في افتعال التمايز عن أهل السنة في موضوع الطقوس ولا سيما الصوم دقائق إضافية كل يوم ويوماً إضافياً في شهر رمضان، وبالتالي إعلان عيد الإفطار في اليوم التالي لإعلانه من دار الإفتاء.
بعد الثورة الإيرانية وغياب موسى الصدر أضيف إلى التمايز الرمضاني تمايز غير مسبوق يوم الوقوف على جبل عرفة بمناسبة عيد الأضحى، وذلك ليس لاختلاف على رؤية الهلال، بل بسبب دخول القيادة الإيرانية في تنافس على حلبة النفوذ السياسي مع العرب، بعد انتقال المرجعية الدينية الشيعية من النجف في العراق إلى قم في إيران.
نَجَمَ التمايز الأول عن اختلاف مفتعل في رؤية الهلال، أما الثاني فبسبب سياسي حول الشيعية السياسية اللبنانية من ذراع سوري إلى ذراع مشترك سوري إيراني ثم إلى ذراع إيراني، تولى زمام أمور الممانعة بنفسه أصالة ونيابة بعد انسحاب الجيش السوري، وتمكنت من استثمار بطولات المقاومة ونتائج “النصر الإلهي” عام 2006 واحتلال وسط بيروت عام 2007 وأحداث أيار 2008 فاستولت على الدولة اللبنانية وإداراتها ومؤسساتها وأمعنت فيها تخريباً.
أدى ذلك إلى فقدان الثنائي الحضانة الشعبية الوطنية، فتحول إلى طرف معزول داخل الطائفة الشيعية ومنبوذ من سائر الطوائف، باستثناء بقايا من أحزاب الممانعة ذات الحنين إلى الزمن الميليشيوي.
أيام الاختلاف على رؤية الهلال كان الإيمان الشعبي مبنياً على قراءة النص القرآني، استناداً إلى الآية 185 من صورة البقرة: “فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ”. التفسير الحرفي اعتمد مشاهدة الهلال بالعين المجردة، يوم كان علم الفلك في نظر العامة حتى ذلك الحين جزءاً من علوم الغيب ولا يختلف بشيء عن التنجيم.
مع ولادة جيل العلوم الرقمية والذكاء الاصطناعي لم يعد التفسير الحرفي قادراً على منافسة غاليليه وحسابات الخسوف والكسوف واكتناه أسرار الفضاء وأعماق المحيطات، فانكشفت التأويلات الواهية أمام قفزات العلم المجنونة، وتجففت أرصدة تجار الدين من وسائل الإقناع ولم يعد أمام التخلف غير الاستنجاد بسلطة الاستبداد الديني والسياسي.
بعد أن حولت الشيعية السياسية النظام الديمقراطي البرلماني في لبنان إلى نظام استبدادي، واختارت رئيساً للجمهورية وضع البلاد على أبواب جهنم، وبعد أن انكشف استثمارها في القضية الفلسطينية، وخصوصاً بعد هزال المواجهة الإيرانية مع إسرائيل، باتت لا تملك من عوامل القوة غير السلاح والتشبيح، ووقفت على باب أرذل العمر.
عاجلاً أم آجلاً ستنتهي معركة المشاغلة مع إسرائيل، وستكون الشيعية السياسية أمام خيارين، إما الاستدارة نحو الداخل لتستخدم فائض قوتها في معارك سياسية خاسرة إما أن تستجيب لنداءات اللبنانيين الداعية إلى الالتفاف حول مشروع الدولة والالتزام بأحكام الدستور والانخراط في عملية إعادة بناء الوطن. الخيار الثاني وحده ينقذ الثنائي والطائفة الشيعية من مصير شبيه بما فعلته المارونية السياسية بنفسها وبالمسيحيين في لبنان.