الحرب علّة وجودها والأوكسجين الذي تتنفسه
أُخضع لبنان بعد العام 1990 للنفوذ السوري والإيراني، ولكن بإدارة سورية سيطرت على لبنان بشكل كامل، ووزعّت الأدوار بين إيران التي منحتها ورقة الحدود من خلال ما يسمى بالمقاومة، والسعودية التي منحتها ورقة المال والاقتصاد عن طريق الرئيس رفيق الحريري، ولكن القرار النهائي في الأمور كلها كان للنظام السوري. فالرئيس حافظ الأسد كان يجيد إدارة التوازنات، فلم يُقفل الساحة اللبنانية أمام حليفه الإيراني الاستراتيجي، ولا أمام المملكة العربية السعودية وما تمثله من وزن سنّي ومالي، ولكن بعد موته لم يتمكّن نجله من الحفاظ لا على التوازنات التي أرساها والده في الداخل، ولا على التوازن بين السعودية وإيران على الساحة اللبنانية، وتزامن استلامه السلطة بعد الخروج الإسرائيلي من لبنان الذي أخرج بكركي عن صمتها فطالبت بخروج الجيش السوري بعد خروج الجيش الإسرائيلي، ما أدخل لبنان في مرحلة جديدة انتهت باغتيال الحريري وخروج هذا الجيش.
وكان سبق ذلك هجمات 11 أيلول 2001 وردّ الفعل الأميركي الذي اندفع باتجاه إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وسقط معه الحاجز العراقي أمام التمدُّد الإيراني، فدخلت المنطقة في عصر السلطنة الإيرانية، وبدأ معها يتوسّع الدور الإيراني في لبنان والذي كان يتطلّب إسقاط الحاجز السعودي-اللبناني المتمثِّل بالرئيس رفيق الحريري، نظراً لحيثيته اللبنانية الواسعة وشبكة علاقاته الدولية الكبرى، إذ من دون إسقاطه، سيبقى الدور الشيعي الإيراني محدوداً وثانوياً، فتمّ اغتياله في 14 شباط 2005، وكان سبق ذلك كله إزالة الحاجز المسيحي المتمثِّل بـ»القوات اللبنانية» قبل منتصف تسعينات القرن الماضي.
ومع اغتيال الحريري بدأ عصر السيد حسن نصرالله والشيعية السياسية التي افتعلت «حرب تموز 2006» لفرملة دينامية 14 آذار قبل أن تعود وتسقطها في 7 أيار 2008، وتنطلق في أوسع عملية تسلُّح وتمدُّد على مستوى الدولة، وكانت من أسوأ الحقبات التي عرفها لبنان في عدد الاغتيالات والحروب وتعطيل المؤسسات والفوضى.
اعتقد حافظ الأسد أنّ حكمه للبنان سيدوم عقوداً وقروناً، واعتقد مثله حسن نصرالله، ولو لم تحصل حرب الطوفان والمساندة من بعدها لكان أحكم سيطرته على لبنان بعد سنوات قليلة، ولكن هذا لا يعني إطلاقا أن حكمه للبنان كان سيدوم، لأن طبيعة هذه التنظيمات أو المشاريع آيلة إلى السقوط الحتمي بسبب ارتكاز أيديولوجيتها وفكرها وعلّة وجودها وبنيتها على العنف، والعنف يولِّد العنف.
فلا تحيا هذه التنظيمات من دون حروب، وأكبر خطر عليها هو السلام والاستقرار والازدهار، فالحرب هي علّة وجودها والأوكسجين الذي تتنفسه، وهذا هو مسارها وتاريخها، فلا تكاد تخرج من حرب حتى تدخل في أخرى. ومن الأمثلة على ذلك قول السيّد حسن نصرالله «الدنيا، في فكر الحزب فانية محدودة. نحن قوم ينمو ويكبر بالدمار». (السفير 3 تموز 1991)، وهذا كلّه للتدليل والتأكيد على مسألتين: القاعدة لدى هذه التنظيمات هي الحرب، وزوالها حتمي لأنّ إحدى حروبها ستخرج عن سيطرتها، فتدمّر وتزول على غرار الحرب الأخيرة التي دمرتها.
ومع اغتيال السيد نصرالله في 27 أيلول 2024، طويت معه صفحة الشيعية السياسية التي بدأت في 14 شباط 2005، خصوصاً أن اغتياله حصل في سياق حرب لم تقتصر انعكاساتها على بنية «حزب الله» العسكرية، إنما طالت البيئة الشيعية برمتها، ولم يسبق أن تعرّضت طائفة في لبنان لما تعرضّت له الطائفة الشيعية بسبب «حزب الله». وأصبح معلوماً أنّ هذه الحرب لن تنتهي قبل إنهاء دور «الحزب» العسكري، وترسيم حدود الدور الإيراني.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بعد انتهاء حقبة الشيعية السياسية؟