IMLebanon

“الشيعية السياسية” و”المقاومة” و”الممانعة”؟

 

 

اصطبغت المراحل السياسية في لبنان، منذ الإستقلال حتى اليوم، بتسميات غلافها الطائفي، كـ»المارونية السياسية» و»السنيّة السياسية» و»الشيعية السياسية»، والكلام على هذه المراحل، لا يُقصد به الطائفة بحدِّ ذاتها، إنما يعني القادة السياسيين لتلك المراحل، بانتمائهم الطائفي ومشاركة آخرين من طوائف أخرى. اليوم يُجمع اللبنانيون على أنّ المرحلة التي أعقبت انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، هي مرحلة «الشيعية السياسية»، فكيف يمكن تقييم هذه المرحلة في الدولة اللبنانية؟

 

وللمقارنة فقط «المارونية السياسية» نجحت في تأسيس دولة مزدهرة كانت لها مكانتها السياسية والمالية والإقتصادية… في المنطقة والعالم. و»السنيَّة السياسيّة» بعد اتفاق الطائف، اندفعت بقيادة «بولدوزر» اسمه رفيق الحريري لإعادة لبنان، بعد انتهاء الحرب الأهلية، إلى دوره الطبيعي والطليعي المزدهر في المنطقة والعالم؛ فاغتيل ومعه مشروعه من قبل عناصر من «حزب الله». لتبدأ بعدها «الشيعية السياسية» التي قادت الدولة إلى التفكُّكِ والإفلاس. صحيحٌ أنّ اللبنانيين يعانون من الحروب والأزمات منذ 55 عاماً، ولم يهتدوا، حتى اليوم، إلى حلٍّ يعيد للدولة مكانتها ودورها. فالأحداث التي بدأت في نهاية الستينيات من القرن الماضي، بواجهة فلسطينية ودعمٍ سوري أدّت إلى سيطرة منظمة التحرير على معظم الأراضي اللبنانية. لكن الرهان تركّز في حينه على وعي اللبنانيين للتخلُّص من هيمنة الفلسطيني الذي يبقى غريباً عن النسيج الوطني؛ وهكذا حصل. وحتى بعدما أحكم النظام السوري قبضته على لبنان، استمرّ رهان اللبنانيين على أنّ هذا النظام، ومعه جيشه، يبقى غريباً وسيرحل؛ وهكذا حصل عام 2005.

 

ولكن بدل أن تتضافر جهود اللبنانيين بعد هذا التاريخ، للعمل على إعادة بناء الدولة، برزت «الشيعية السياسية» بمشروعٍ فئويٍّ، محميٍّ بسلاحٍ غير شرعي، أثبت لاحقاً أنه مصمِّمٌ على تغيير هوية لبنان التاريخية، وربطه بمحورٍ مستجدّ تقوده إيران، غير متصالح، على الأقل، لا مع المحيط العربي ولا مع الأسرة الدولية؛ ما أدّى إلى إفلاس الدولة وانهيارها.

 

عدّةُ «الشيعية السياسية»

 

 

 

عدّةُ «الشيعية السياسية» التشغيلية لمشروعها السياسي تتلخّصُ بعنوانين: سلاح غير شرعي أطلق عليه الحزب تسمية «مقاومة»، وسياسي فئوي أطلق عليه تسمية «الممانعة».

 

بداية هل يمكن لـ»حزب الله» أن يشرح للبنانيين ماذا يقصد بعبارة «مقاومة»؟ أي مقاومة من لمن، متى وكيف…؟ طبعاً لا جواب؛ سوى الإستفاضة في الوعد بهزيمة إسرائيل. ولكن كيف يقاومها، متى وكيف؟ لا جواب. ومن أعطاه الحقّ بمصادرة الحق العسكري السيادي للدولة؟ خطابات الأمين العام للحزب تعِدُ الجماهير بالوصول إلى النقب في جنوبي إسرائيل. ولكن قبل الوصول إلى النقب على مسافة 400 كلم من حدود لبنان، لماذا لا يبدأ وعده بتحرير واستعادة قرية «الغجر» (اللبنانية بـ24 قيراطاً)؟ إذ هي تقع فوق أرضٍ لبنانية خارج مزارع شبعا، المتنازع عليها بين لبنان وسوريا، ليباشر بعدها بتحرير فلسطين وصولاً إلى النقب؟ طبعاً لا جواب.

 

معظم اللبنانيين يرى في خطابات كهذه وهماً وتخديراً للبيئة الحاضنة للحزب. لأن اللبنانيين صُمّت آذانهم من آلاف الخطابات التي أطلقها «الثوريون» في العالم العربي منذ سبعة عقود عندما دأبوا على استغلال القضية الفلسطينية، فيعدون شعوبهم بإلقاء إسرائيل في البحر، ليستولوا على السلطة في بلدانهم فكانت النتيجة أن ازدادت إسرائيل قوة واتّساعاً؛ بينما ازدادت الدول الثورية ضعفاً وضموراً.

 

بعد صواريخ القليلة

 

اللبنانيون بمعظمهم متأكدون، أنّ المقاتلين المئة ألف الذين هدّد بهم أمين عام «حزب الله» اللبنانيين يوماً، لا يصلحون للقتال إلّا في سوريا واليمن والعراق لصالح دولٍ إقليمية… وصولاً إلى القيام بعملياتٍ خاصة في الكويت وقبرص والأرجنتين وتايلاند ولبنان…؛ لأنّ عصر الجيوش والإحتلالات لم يعد قائماً؛ فهؤلاء «المقاتلون» لن يدافعوا عن لبنان، خاصة أنّ الأمين العام بات اليوم يعلم، بل على العكس هم يساهمون في تقويض الدولة وانهيارها. أما التسويق بأن المقاومة تدافع عن الجنوب إذا حاولت إسرائيل الدخول إليه من جديد؛ فهنا لا بد من تذكير اللبنانيين والجنوبيين، بعد الصواريخ التي أطلقت من القليلة، بالحقائق التاريخية التي لا تتطابق مع المصلحة الشخصية لأصحاب نظرية «المقاومة» و»الممانعة»، هذه الحقائق هي الآتية:

 

1 – لم تدخل إسرائيل إلى الجنوب في لبنان، إلّا بعدما تخلّت القوى الجنوبية الفاعلة من المواطنين الجنوبيين عن أرض ذاك الجنوب العزيز على كل اللبنانيين، عندما فضَّلت هذه القوى الوجود المسلّح الفلسطيني في جنوبي لبنان على وجود الجيش اللبناني. والتاريخ يشهد بأنّ الفاعليات الجنوبية لم تستجب لطلب الرئيس كامل الأسعد الذي حذّرها من التمادي في دعم «الفدائيين» الفلسطينيين على حساب الدولة؛ كما لم تنفع عبارة الإمام السيد موسى الصدر عندما توجّه إلى ياسر عرفات في الأونيسكو محذّراً، بعدما حوّل فدائيوه الجنوب إلى أرضٍ بلا دولة، قائلاً: «أنا أحمي المقاومة بثوبي وعمامتي»؛ فكان مصيره محتوماً في ليبيا. وكثيراً ما رُشِقَ عسكريوّ الجيش اللبناني بالشتائم والحجارة عندما كانوا يمرّون بآلياتهم العسكرية في بعض مدن الجنوب وقراه. وهكذا أصبح الجنوب في حينه، بمباركة القوى الفاعلة من مواطنيه ساحةً مستباحة لعمل منظمة التحرير الفلسطينية؛ ففقدَت أرض الجنوب صفتها «الدولتية» اللبنانية وتحوّلت إلى ميدان كرٍّ وفرٍّ بين إسرائيل ومسلّحين فلسطينيين يفتقدون إلى أيةٍ مرجعيةٍ شرعية دولتية.

 

2 – لم يلحظ اللبنانيون يوماً أن لدى إسرائيل نية بالبقاء في لبنان (كلامٌ لن يُرضي حماة «الدويلة»). فعندما احتلّت الأراضي العربية في سيناء والضفة الغربية والجولان، أقامت فوقها المستعمرات ولا تزال. لكنها لم تؤسس أثناء احتلالها الجنوب، لبناء قرية واحدة أو تشيِّد حتى منزلاً واحداً يشي بأمرٍ من هذا القبيل. لا بل أقامت مؤخّراً جداراً على الحدود؛ والجدران بالمفهوم العسكري تُشيَّدُ عادة للدفاع والحماية وليس للهجوم. وصواريخ القليلة بالأمس شاهدة على ذلك. ما يؤكِّدُ أنه ليس بالعسكر وحده تُحمى الأوطان.

 

3 – الثكنات العسكرية في الجيش تعجُّ بأسماء العسكريين (ضباطاً ورتباء وأفراداً) الذين استشهدوا دفاعاً عن أرض الجنوب، بدليل أنّ الجيش الإسرائيلي لم يدخل إلى الأرض الجنوبية إلّا بعدما فقد الجنوب، بوجود المسلّحين الفلسطينيين، هويته العسكرية اللبنانية بمباركة القوى الفاعلة من أهله؛ وجيلنا العسكري شاهدٌ على ذلك. فحماية الجنوب تؤمَّن بالدولة وقواها المسلّحة، كما هي الحال في كلِّ دولِ العالم، القوية والضعيفة، الغنية والفقيرة… وليس بادِّعاء «المقاومة» لتبرير وجود السلاح غير الشرعي لـ»تسويق» مشاريع لا تصبّ في مصلحة الوطن. ومنذ فترة وجيزة، جرى إطلاق أكثر من ثلاثين صاروخاً «يتيماً» مصدرها الأرض اللبنانية باتجاه شمالي إسرائيل؛ فهل يمكن القول إننا رجعنا نصف قرنٍ إلى الوراء، وهذه المرة بتغطية من «حزب الله»؟ وهل يمكن تسويق «المقاومة» بعد الآن بأنها للدفاع عن لبنان، بينما هي تغطي «المتحرّشين» بإسرائيل؟ وهل عدنا إلى سياسة تلازم الساحات الساخنة التي لم تجلب يوماً سوى الدمار الشامل للبنان؟

 

حدود غير خاضعة

 

معظم اللبنانيين باتوا متيقّنين بأن «الشيعية السياسية» وحلفاءها وخائفيها، هي التي أوصلت الدولة إلى الكوارث التي نعيشها اليوم. فالحدود لم تعد خاضعة، دخولاً وخروجاً، لسيطرة الدولة؛ والمرفأ، على سبيل المثال، يتلقّى الحاويات تحت علامتين: إما خضراء تخضع لرقابة الدولة وجماركها، أو حمراء لصالح «المقاومة» التي تستورد فيها تحت هذا الشعار كل أنواع الممنوعات ومعها القسم الأكبر من المواد الإستهلاكية، فتحرم الدولة من واردات الجمارك؛ ما يتسبّب في هذا الفارق الكبير في سعر السلعة نفسها بين الضاحية وجاراتها، وتعطيل الإستحقاقات الدستورية المتلاحقة منذ عام 2006 حتى اليوم، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية والحكومات…. كلُّها ممارسات أضعفت مشروعية الدولة تجاه الأمم المتحدة؛ وما يقوم به «الحزب» من قضمٍ لبعض المواقع الاستراتيجية في الأرض اللبنانية، من بلدة رميش جنوباً وصولاً إلى مشارف بلدة عندقت في عكار، مروراً بجزين والبقاع والطريق الساحلي وطريق الشام خطير جداً… استظلّت «الشيعية السياسية» بذراعها العسكرية، سياسة خارجية أطلقت عليها تسمية «الممانعة»؛ التي تستمرّ كما عبارة «المقاومة» غامضة فاقدة المضمون والحدود. ممانعة من لمن؟ متى وكيف؟ فإذا كان الهدف منها الدعوة إلى الإنضمام إلى محور عسكري سوري- إيراني في مقاومة وممانعة إسرائيل، فما تقوم به هذه الأخيرة يوميّاً من أعمال حربية، على هذا المحور فوق الأرض السورية أو داخل إيران لا يشجع أبداً على تلبية الدعوة. وإذا كان الهدف منها، كما تبين حديثاً، الإتجاه نحو الشرق، أي روسيا والصين وفنزويللا بالإضافة إلى سوريا وإيران، على حساب التواصل والإنفتاح مع العالم الحرّ والمتطوّر، فيكفي أن يسأل اللبنانيون أصحاب هذه النظرية:

 

هل رأيتم يوماً مواطناً من العالم الحرّ، يحلم بالإنتقال للعيش في بلدان هذا المحور أم العكس؟ لا بل لماذا يحلم معظم أبناء بلدان هذا المحور بالإنتقال من بلدانهم للعيش في بلدان العالم الحرّ؟ من سوريا إلى إيران فالصين وكوريا الشمالية وفنزويلا، وسابقاً ألمانيا الشرقية هرباً من «جحيم» أنظمة هذه البلدان؟ لا بل يمكن التوجّه بالسؤال إلى أبناء «الشيعية السياسية» إذا كانوا يحلمون بالإنتقال للعيش في سوريا وإيران… أو في ألمانيا الحالية مثلاً؟ إنها دعوة مرفوضة من قبل جميع اللبنانيين المصمّمين على عدم استبدال حريّتهم وتطوّرهم بكلِّ مغريات الدنيا.

 

استنفدت «الشيعية السياسية» كلّ طاقاتها بأقل من عقدين لتفشل في إقامة دولة، مكتفية بإقامة «دويلة» غير قابلة للحياة داخل لبنان. فذراعها العسكرية أي «المقاومة» لا تحمي لبنان بقدر ما تحاول إخضاع اللبنانيين؛ والسياسة الخارجية التي تدعو إليها، أي «الممانعة»، لا تؤسّس لبناء دولة بقدر ما تحاول إلغاء وطن. لذلك فهي مدعوّة اليوم للتخلّي عن التحكُّم بواسطة «الدويلة»، والتعاون مع بقية اللبنانيين لتأسيس دولة جامعة على أساس القانون والعدالة والمساواة، لتفادي الوصول إلى لبنان آخر.

 

(*) نائب سابق في تكتل «الجمهورية القوية»