Site icon IMLebanon

هل تنجح الشيعية السياسية… حيث فشل الآخرون؟

 

اندلعت الحرب الأهلية في عهد الرئيس سليمان فرنجية، في نيسان 1975. وكانت مقدمات تلك الحرب في الميدان، صراعاً بين مكونات لبنان السياسية والطائفية حول مسألتين: «النظام اللبناني والمقاومة الفلسطينية».

دامت الحرب قرابة 15 سنة وشهدت صولات وجولات، تقلّبت فيها موازين القوى بين أفرقاء الصراع المحليين وداعميهم الإقليميين والدوليين. فمن كان يقبل بتقديم تنازلات للخصم، سرعان ما يتراجع عنها بجرعة دعم تأتيه من حليف إقليمي أو دولي. هذا ما أطال أمد الحرب وعظّم أثمانها.

وكلمة حق تقال، إنّ الرئيس فرنجية، الذي تغلّب على سركيس سنة 1970 نتيجة تقاطعه مع رئيس الحركة الوطنية كمال جنبلاط في تبني دعم الثورة الفلسطينية، كان أكثر قيادات الجبهة اللبنانية تمسّكاً بالامتيازات المارونية في السلطة، وخاصة في مؤتمر لوزان الذي امتدّ انعقاده من 12 إلى 20 آذار 1984. وعلى الرغم من الغلبة التي حقّقها أحد الأفرقاء بنتيجة اجتياح جيش العدو الإسرائيلي لبنان عام 1982، والهزيمة التي ألحقها بحليفي الحركة الوطنية الإقليميين الفلسطيني والسوري، غير أنّ النجاح في مقاومة جيش الإحتلال الإسرائيلي، قد أفشل نتيجته السياسية بإسقاط اتفاقية 17 أيار 1983.

عُقد العديد من جولات الحوار في الداخل والخارج، من جنيف إلى لوزان من أجل وقف الحرب وإنتاج عقد وطني اجتماعي جديد بين اللبنانيين، لتنتهي هذه الجولات بالحوار الذي شهدته مدينة الطائف في السعودية ونجم عنه اتفاق الطائف سنة 1989، بعدما اختلّ توازن القوى الدولية لمصلحة الحلف الأطلسي بسقوط حائط برلين وبداية تفكّك حلف وارسو. هذا الاتفاق الذي نجم عنه اضطرار المارونية السياسية إلى التخلّي عمّا كانت ترفضه سابقاً من امتيازات لمصلحة العيش المشترك وبناء دولة المواطنة.

للأسف إنّ دستور الطائف الذي أُقرّ في أيلول 1990، طبّق بشكلٍ استنسابي من دولة الوصاية السورية، ثم من التحالف الرباعيّ، وألبِس مفهوم الديمقراطية التوافقية والثلث المعطّل، والميثاقية والقويّ بطائفته، في اتفاق الدوحة بعد أحداث السابع من أيار، ما عزّز تقاسم السلطة وتحاصصها طائفياً بين من تواجهوا بالأمس من خلف المتاريس، وكرّسوا بنهجهم ذاك تعطيل بناء الدولة.

واليوم نقف أمام مشهد جديد من المواجهة في ظلّ انقسام عمودي، سياسي طائفي، بين المكوّنات السياسية والطائفية اللبنانية ذاتها إلى حدٍ ما، وكأننا أمام 1975 جديدة، وكلنا أمل أن تبقى المواجهة بوسائل سياسية باردة. وموضوع الانقسام الفعلي اليوم شبيه بذاك الذي شهدناه على أبواب الحرب الأهلية في العام 1975، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، «النظام والمقاومة».

سطوة الشيعية السياسية

ولكن هذه المرة هي سطوة الشيعية السياسية على النظام، والمقاومة هي بجسد لبناني ورأس إيراني. وظاهر هذا الانقسام هو هوية رئيس الجمهورية العتيد، حيث يتعطّل انتخابه منذ ما يزيد على 8 أشهر. وواجهة هذا الانقسام، هو سليمان فرنجية الحفيد، المرشّح الرئاسي المدعوم من الثنائي الشيعي لأنه الضامن لعدم طعن المقاومة بالظهر، والمتموضع خارج الإطار الماروني خلافاً لتموضع جدّه! وتصطفّ بمواجهته كتلة اعتراضية ركيزتها الأساسية التنظيمات المسيحية. ولم يغيّر شيئاً من معادلة الانقسام تلك، تقاطع «اللقاء الديمقراطي» معها. وغني عن القول، إنّ موقف الكتلتين المسيحيتين الكبريين وتبعاً لتصريحات قادتهما، بات يتجاوز مسألة شخص الرئيس إلى طبيعة النظام الذي يجب أن يحرّرهما من سطوة قوة مقاومة الشيعية السياسية المرتبطة إقليمياً وعضوياً بإيران وتتناغم مع أهدافها. وكأننا أمام مشهدية كثيرة الشبه بتلك التي مرّ بها سليمان فرنجية الجدّ، ولكن بتموضع مختلف.

خلال أشهر الفراغ الرئاسي الثمانية وتعطيل الآلية الديمقراطية لانتخاب رئيس للجمهورية، عبر الجلسات الإثنتي عشرة الفولكلورية، لم تفلح الخماسية «أميركا، فرنسا، السعودية، مصر وقطر»، في التقريب بين أفرقاء الصراع اللبنانيين لإنهاء الشغور الرئاسي، لأنّهم يتخندقون في مواجهة أخذت طابع ليّ الأذرع ضد بعضهم البعض، بانتظار توافق بالقوة تفرضه معادلة خارجية، وخلافاً لما ذهب إليه فرنجية الجدّ، بخوضه المبارزة في عملية انتخابية فاز فيها على خصمه بفارق صوت واحد.

أنهى المبعوث الرئاسي الفرنسي جان- إيڤ لودريان جولاته على مختلف الأحزاب والكتل النيابية وبعض المرجعيات الدينية، من دون نتيجة تذكر، واعداً بالعودة بعد ثلاثة أسابيع لاستكمال حوارات طبخة البحص على ما أعتقد. وأمام تمتْرس وتصلّب كل فريق وتمسّكه بموقفه، علينا أن ننتظر تكرار جولات لودريان مرات ومرات، الذي يمكن أن يصحب معه في المرات المقبلة آخرين من المهتمين بالملف اللبناني في «الخماسية والتي يمكن أن تصبح سداسية بانضمام ممثل لإيران». وقد يبادرون إلى لقاءات حوارية في الداخل أو في الخارج، وقد تُعقد الكثير من طاولات الحوار قبل التوصل إلى أي تسوية رئاسية.

ويتوقع بعض المعنيين بالملف الرئاسي أن يمتدّ الشغور إلى نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي. فالثنائي الشيعي غير قابل بالحوار إلا بالتوافق على سليمان فرنجية رئيساً. والفريق المواجه يتقاطع على رفض فرنجية وعلى أي تسوية تبقيه في السباق. ولودريان ختم جولته الأولى محذّراً من إضاعة الوقت عبر إطالة أمد الفراغ ! فهل يكون البديل عن التسوية الرئاسية، الغوص في البحث عن نظام أو عقد وطني اجتماعي جديد؟ فدرالي، كونفدرالي، تغيير جوهري في المناصب بالدولة…؟ وهل يمكن أن يمرّ ذلك على البارد؟ أم سيستدعي وضعاً ساخناً؟ وهل سوف تقودنا الصيغة الجديدة التي يروّج لها بعض وسائل الإعلام إلى الاستنتاج، بأن ميشال عون كان آخر رئيس ماروني لجمهورية لبنان؟

على الرغم من حجم التعقيدات التي تحيط بالملف اللبناني، وأخذاً بالاعتبار تجارب التاريخ، وحيث فشلت المارونية السياسية والسنية السياسية، فهل ستنجح الشيعية السياسية؟

أعتقد أنّ مقولة لبنان، أصغر من أن يقسّم وأكبر من يبتلع واقعية ومنطقية جداً. فالوعي القبلي السائد والغالب على ثقافة معظم اللبنانيين سيحوّل الانقسام السياسي بين الطوائف والمذاهب، إلى انقسامات داخل كل طائفة ومذهب، فيصبح انقساماً حزبياً وعائلياً، وحتى بين أفخاذ العائلة الواحدة في الدوائر الفدرالية الضيقة. ولا تزال حيةً في ذاكرتنا «حرب الإلغاء» والمعارك بين «أمل» و»المرابطون»، و»أمل» و»حزب الله».

لذا لا خيار للبنانيين سوى ببناء دولة المواطنة الحديثة، وهم أهل لذلك، عبر تطبيق دستور اتفاق الطائف من دون استنسابية أو اجتزاء. هذا الدستور الذي كلّف اللبنانيين 150 ألف قتيل، يؤسس فعلاً لدولة مواطنة مدنية ديمقراطية، خاصة إذا أجري بعض التحسينات فيه، مثل تحديد المهل الزمنية للتكليف والتأليف ومسألة غياب النواب عن جلسات المجلس النيابي من دون مسوغ شرعي، وتأكيد التوازن بين السلطات بإعطاء الحكومة حقّ حل المجلس، وإناطة تفسير الدستور بالمجلس الدستوري حصراً، والبت باستقلالية القضاء. وتفعيل مؤسسات المحاسبة، التي من دونها لا يمكن أن تبنى دولة. وأعتقد أنّ أقصر الطرق إلى إنهاء أزمة الرئاسة وتفادي مخاطر عامل الوقت بإطالة أمد الفراغ الذي حذّر منه لودريان، هو بتفعيل العملية الديمقراطية بحضور النواب إلى المجلس وانتخاب رئيس من بين المرشحين، ولينجح من ينجح بعدد الأصوات المتاحة دستورياً، فنعيد بذلك الاعتبار للدولة الديمقراطية بوجود موالاة ومعارضة. والنائبان الصامدان لأكثر من مئة وخمسين يوماً في القاعة العامة لمجلس النواب، نجاة عون وملحم خلف، يمثّلان نموذجاً لممارسة الديمقراطية واحترام الدستور والقانون. ومؤسفٌ جداً أن يتجاهل وجودهما ومبادرتهما عدد من زملائهما والسيد لودريان مبعوث رئيس أم الديمقراطيات في العالم!؟