IMLebanon

لُطفًا عقلنوا خطابكم السياسي

 

 

«ها أنا أرسلَكُمْ كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حُكماء كالحيّات وبُسطاء كالحمام».. يعتبر العلم السياسي أنّ السياسة هي الإجراءات والطُرق المتّبعة من أجل تسيير المجتمعات البشرية، حيث الأنانية والإنفعال يثيران مقداراً من الرعب عند الطرف الآخر. ولكسب مرحلة تفاوضية ناجحة يجب على المحاورين أن يوجدوا منظومة سياسية مقبولة، تأخذ في الإعتبار القوانين المرعية الإجراء، ومفاوضين حكماء بعيدي النظر تُسيِّرهم المصلحة الوطنيّة لا الخاصة، ويخضعون للقوانين خضوعًا صارمًا. وعلى المفاوض الديبلوماسي أن يتقبّلْ ما لا يستطيع تغييره بلمح البصر، وأنْ يركّزْ على ما يستطيع التأثير فيه. فالكلام عن أمر واقع لن يُفيد، بينما الحديث عمّا يستطيع إنجازه بالطرق القانونية والديبلوماسيّة لإحداث تغيير ما الذي يُطمح إليه هو المطلوب، وهو الذي سيؤثِّرْ عمليًا على واقع الأمور.

لا يبدو في الوقت الحالي علميًا ووفق العلم السياسي، أنّ العاملين على خطى إيجاد مخرج للأزمة اللبنانية بكل مندرجاتها، في صدد إيجاد منظومة لائقة لها، على الرغم من إعتراف كل طرف سياسي لبناني بفداحة الخسائر الإقتصادية ـ المالية ـ الإجتماعية التي تستنزف الجمهورية اللبنانية وتُهدِّد ركائزها. مبادرات، دراسات، اجتماعات، وغيرها من التحضيرات، لوضع حدّ لهذه الأزمة ولفتح حوار سياسي معمّق يطاول كافة الملفات العالقة. ولكن الأمور على ما يبدو وللاسف لم يُكتب لها النجاح. إنّ أسباب الفشل فعليًا تكمن في عدم وجود صيغة توافق تعزِّز العمل الديموقراطي وتؤسِّس لحوار متمدّن معقلن يُلّبي ضرورات تطويره نحو تجذير التحوُّل الديموقراطي، طبعًا مع نضوج ظروفه الموضوعية المطلوبة محليًا ـ إقليميًا ـ دوليًا. إنّ أسباب الإخفاق هي منطقيًا سوء إدارة الإختلاف بين المكوّنات السياسية والضجيج المترافق لبعض المُتسلِّلين عند جهات معينة، وتشويه بعض الحقائق في رسم ملامح الوضع الحالي، بهدف كسب رضا آني ولتوظيفه في مرحلة للمصلحة الخاصة.

 

الواقع اللبناني الحالي يَصدُمْ بحجم خطابات التحريض والإتهامات المتبادلة والنيات السيئة، والتشكيك في الغايات التي تطغى على مختلف الأفرقاء السياسيين، والتي تُلقي بظلالها في لحظات مفصلية على خطاب إعلامي يتضمن أنّ الفعل السياسي لا يقوم إلاّ على معادلة تزكية الذات وإستهجان الآخر، وهي منظومة تتناقض والإدّعاء بالمساهمة في تحقيق ثغرة إيجابية في المنظومة السياسية المطلوبة.

 

إستنادًا إلى البحث العلمي الخاص بمندرجات العلم السياسي، إنّ الأزمة الحالية هي أزمة مفهوم المضامين للدولة في لبنان، في تفاعلاتها الطبيعية بين واقع السلطة وتجليّات الفكر السياسي المتنوِّرْ كأداة لبعث نهضة فكرية سياسية تحديثية، وإنتهاج أسلوب ديموقراطي هدفه بناء مؤسسات الدولة على قواعد علميّة حديثة. وعمليًا بات ضروريًا تولية الإهتمامات لهذا الوضع الشاذ في الدولة اللبنانية، لمعرفة الأسباب الموضوعية لتفاقم الأزمات والبحث عن الحلول الناجعة، لردّ الإعتبار للدولة اللبنانية بكل مؤسساتها المحلية والديبلوماسية.

 

وعند الإرتكاز الى العلم السياسي لدرس الخطاب السياسي اللبناني، غالبًا ما تكون النتيجة خطاباً إنتقائياً يفصل بين العمل السياسي الديموقراطي كآلية لممارسة الحكم، أي أن يأخذ بمبادئها ويتبنّاها في معظم الأشكال الصحيحة، وبين فكرٍ متنوّر من المفترض أن يتمتّع به أي مسؤول، وكنظام منفتح يجب إنتهاجه. وغالبًا ما يتُّم إنتقاء ما يتلاءم ومنظومات الأحزاب الحاكمة في تنظيم تصوّر ما للدولة على أسُسْ المصالح الخارجية ومصلحة السياسيين الذين يُمسكون زمام السلطة وفقًا لطموحاتهم ولأجندات خارجية. عقلنة الخطاب السياسي مبدأ مهم من الواجب الإرتكاز عليه. دعوة جميع السياسييّن إلى تغليب لغة الحوار وسياسة المكاشفة والمصارحة والشفافية والإحتكام إلى العقل والقوانين والدستور والمصلحة الوطنية العليا هي الأساس. إنّ الدعوة إلى العقلنة ليست طرحًا عابرًا في ظل أزمة تعصف بلبنان بمشهد ضبابي وويلات تكاد الإطاحة بركائز الجمهورية ومرتكزاتها وصيغة عيشه المشترك، وحتى ستقضي على كل بُناه.. إنّ الحوار العقلاني هو طرح موضوعي علمي واقعي يرتكز على القراءة الصحيحة لواقع الأزمة اللبنانية بكل تشعباتها السياسية ـ الأمنية ـ الإقتصادية ـ المالية ـ الإجتماعية، الممزوجة بسياسات التوافقات الظرفية والآنية والمصلحية والمحاصصات والتشتُّتْ في الرؤى وضمور الإنسجام المطلوب،

 

حتى بأقل مقدار ممكن، وتعاكس وجهات النظر بين الرأي العام وتعدُّدْ الولاءات وتعدُّدْ الإلتزامات. وكلُّها أمور قد تصل إلى آفاق غير مسبوقة خطيرة قد تصيب الدولة بمرافقها الحياتية إمّا بالشلل أو بالإندثار مع تعثُّرْ الواقع السياسي بكل مندرجاته.

 

في المقابل، من المفترض أن يكون وفق النظام الديموقراطي مجموعة فكرّية متنوّرة واعية مقدامة معروفة أنّها أكثر عقلانية من تشنُّج الخطاب السياسي، وإنّ هذه المجموعة أكثر تراصًا وإنسجامًا وتفاهمًا ممّا هو حاصل، ولن تؤثر فيها الإحتدامات السياسية وبعض المواقف الإعتباطية وحتى الإستغلالية على متانتها.

 

إنّ خيار الحوار العقلاني تحت عناوين الدستور والقوانين المرعية الإجراء هو السبيل الأكثر عقلانية ومقبولية كمنظومة سياسية في واقع لبنان المأزوم أصلاً والمفعم بالمطبات والمشكلات، وهذا ما يجب أن يلتفت إليه بعض المسؤولين لمعالجة الأزمة، بدل الإعتماد على حلول ركيكة قد تتحوّل ربما حلقات هرج ومرج، يتحقق فيها ما لم يتمنّاه احد.

 

المطلوب اليوم من كل مفكّر ومثقف وصاحب إختصاص، وحتى من رجال الدين، الإلتزام بمساعدة الجمهورية على الخروج من الأزمة الحرجة، وعليهم أن يُعّروا كل محاولة لإرجاع الشعب اللبناني إلى إستعمال شتى أنواع الحلول اللامنطقية واللاموضوعية. فالمطلوب اليوم عقلنة الخطاب السياسي المُطعّم بالحرية الذاتية والكرامة والعدالة الإجتماعية وصيغة العيش المشترك. فقمّة العقلانية الحوارية يجب أن تُحقق بوسائل عقلانية جديدة خارج الأوهام المستحيلة والإعتباطية وحتى الخاصة.