عقود من الزمن مرّت على نشأة لبنان بإطاره وحدوده القائمة حاليا. كان لهذه النشأة جملة من الدوافع والمبررات التي كرست وجود هذه الدولة التعددية في تكوينها أرضا وشعبا ومؤسسات، وكان أمرا لافتا ذلك التكوين الذي ضم إليه طوائف عدة تتناسل إلى ثمانية عشر مذهبا، يتشكل منها ومن تناقضاتها تكوينه المضطرب أسلوب علاقاته مع الطوائف والمذاهب.
جملة من التناقضات والتحفظات والمناكفات التي عايشناها جميعا بأشكال اجتماعية ووطنية وسياسية مختلفة، إلاّ أنها تطورت مع الزمن، وانقلبت تناقضاتها في كثير من الأحيان إلى عصور ذهبية من التكامل الوطني، وأُشيِرُ بشكل خاص إلى مرحلة حكم الرئيس فؤاد شهاب، الذي قلب أوضاع الوطن رأسا على عقب فأصبحنا في عهده دولة مؤسسات أطلّت إلى الوجود، ومدّت أياديها الإصلاحية والتغييرية إلى المناطق البعيدة عن المدن الكبرى وأماكن الإزدهار المحظوظة، وقد شعر مواطنوها المهمشون في تلك الحقبة الزمنية المعطاءة بتلك الفورة الإصلاحية وبانتمائهم إلى وطن وإلى دولة وإلى رئيس جمهورية لكل لبنان وكل اللبنانيين قولا وفعلا، وكان عهد الرئيس سركيس مكملا ناجحا لهذه الحقبة التغييرية، إلى أن انتكست أحوال هذا البلد من خلال تداعيات القضية الفلسطينية على مجمل الوطن اللبناني وانقلابها المؤسف إلى حرب أهلية أكلت ونهشت الأخضر واليابس وأسهمت في ضرب الأسس التي قام عليها الوطن اللبناني ووحدة أبنائه التي لم تتمكن من إكمال مسيرتها نحو مزيد من التكامل والتطوّر وكانت الطامّة الكبرى بوضع اليد على لبنان من قبل النظام السوري الذي سلّم البلاد بعد خروجه الإضطراري من لبنان إلى أعوانه، وإلى الجهات والفئات التي تطابقت توجهاتها السياسية والعقائدية والمذهبية مع أوضاعه، مطلقا أياديها وانتماءاتها الإقليمية، وممكّنا اياها من الإمساك بمقاليد البلاد. ونتوقف في هذا المجال أمام عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كانت له اليد الطولى في الإمساك بالوضع الاقتصادي اللبناني بحيث أنقذه من سيئات أوضاعه التي خلفتها له سنوات عديدة من الاحترابات الإقليمية والداخلية ووضعت البلاد على سُلّم الإنماء والإعمار والتطور، من دون أن ننسى دور الرئيس الشهيد في مؤتمر الطائف ومقرراته التي تكرست اتفاقا وطنيا ملزما، ومن ثمَّ دستورا للبنان القائم بعد سنوات الحرب الداخلية التي لم تبق ولم تذر من لبنان إلاّ أكواما من الخراب والدمار، وكان للرئيس الشهيد فضل النهوض الوطني والاقتصادي والتربوي واستمر في مسيرته النهضوية حتى الرمق الأخير من حياته الحافلة بالإنجازات، وكان له فضل غير مباشر حيث أطلق اغتياله الغاشم ثورة الأرز التي أطلقت إلى الوجود، تجمع 14 آذار التي انطفأ وجودها لاحقا مع الأسف لجملة من السلبيات التي طاولتها وأطفأت جذوتها.
كل هذه الإنجازات التي حُرم لبنان من استكمالها حتى الهدف الأخير من خلال عملية الاغتيال الآثمة التي طاولت الرئيس الشهيد، ومعه، لبنان المتحفز إلى النهوض الشامل، شهدت جملة من الاختلافات والتعدّيات المعنوية المؤسفة، عليها وعلى الوسط السني الذي يشكل مكوّنا أساسيا من مكونات الوجود اللبناني، والطامّة الكبرى أن معظم هذا التهجم وهذا التعدي، يجيء كالعادة، وكما هو الشأن مع معظم المكونات اللبنانية من خلال الوزير جبران باسيل الذي لم يعد يترك مجالا إلاّ ويطلق فيه زلّات لسانه متطاولا على الجميع، وآخر ما نالنا منه، تهجّمه على الطائفة السنية وعلى ما أسماه السنية السياسية التي لم تعط أحداً مثلما أعطته من خلال تلك التسوية التي عُقدت ما بين الرئيس عون والرئيس سعد الحريري والتي خلقت جدالا وامتعاضا واعتراضا لدى أوساط واسعة في الطائفة السنية، ومن المؤسف أن يُحمّل الرئيس الحريري جميل تسوية وضعه مع المملكة العربية السعودية في فترة الاحتجاز التي كان سببها الرئيسي تلك التسوية التي عقدت ما بينه وبين الرئيس عون، ويمكن للرئيس الحريري إذا شاء أن يذكر بالجميل الكبير الذي كان السبب الرئيسي في وصول الرئيس عون إلى سدة الحكم بعد ما يزيد على العامين والنصف من تعطيل البلاد ومنع انتخاب رئيس لها من قِبَل حزب الله، ولرغبة لديه في التعطيل وفي إيصال من يشاء إلى تلك السدّة، والرئيس الحريري رغم كل المستجدات السلبية المؤسفة، ما زال مصرا على سياسة التهدئة ولملمة الجراح، والحؤول دون تطور الأوضاع إلى الأسوأ وإلى الانهيار الاقتصادي والسياسي الشامل في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ لبنان والمنطقة. ان التنكر لكل من لهم فضل على ظروف التسوية ووصول التيار الوطني الحر إلى مواقع الحكم، ومن خلال قانون انتخابي لاحق مشغول وممعن في الإمساك بفواصل البلاد والعباد في هذا البلد الذي عادت إليه في المرحلة الأخيرة كل النغمات الطائفية الشاذة التي تصرّ على تحميل الطائفة السنية أوزارا ليست لها وليست من طبيعة أبنائها الذين يشكلون، عمادا أساسيا من أعمدتها التي ما زالت تحفظها من التهاوي، ولعل في طليعة ما يدعو الرئيس سعد الحريري إلى الاستمرار في سياسة البال الطويل التي كلفته كثيرا من العناء والأعباء وانتهاج مسالك أمّ الصبي المعقدة والمكلفة شعبيا، وهي تتمثل حاليا في إصراره على إيصال مؤتمر سيدر إلى موقع التحقق والقدرة على رفع البلاد من المهاوي التي تتعرض لها في هذه الأيام التي تسير بنهجها المتعثر القائم إلى الهاوية والانهيار، في مقابل ذلك هناك طموح وجموح لموقع الرئاسة بعد انقضاء سنواتها الحالية المتبقية، وبعد أن مضت على أيام السياسة الشعبوية المتفوقة في اختلاق الخصومات والعداءات ثلاث سنوات لم تبرز إلى الوجود لدى فخامة الوزير إلاّ قوة شكلية تصلح لجماهير الانتخابات النيابية والبلدية دون أن تثبت حتى الآن صلاحيتها وأهليتها للمواقع الكبرى ولمسيرة ناجحة باتجاه الإنقاذ والخلاص.