على امتداد المئوية من عمر لبنان لم يظهر إلى العلن غير مشروعين سياسيين للطوائف، المارونية السياسية التي اغتصبت دور المسيحيين، والشيعية السياسية التي عجزت عن فرض مشروعها على المذاهب الإسلامية. أما مشروع السنية السياسية فقد تولى الإعلان عنه طرفان من خارج أهل السنة، الحركة الوطنية اللبنانية استظلت بهم في بداية الحرب الأهلية لتدافع عن السلاح الفلسطيني، وقدمت باسمهم مشروعها السياسي للإصلاح الديموقراطي القاضي بتعديل صلاحيات رئيس يحكم ولا يحاسب؛ والتيار العوني، على بعد ثلاثين عاماً، افتعل خصومة مع رفيق الحريري بعد اغتياله، متوجساً من قوته الاقتصادية العملاقة ومكوبساً من اغتصابه صلاحيات رئيس الجمهورية.
قبل أن ينتخب ميشال عون رئيساً قال لي سهيل بوجي الأمين العام لمجلس الوزراء، إن المسألة لا تتعلق بالنص الدستوري بل بتأويل أحكامه وبأشكال تطبيقه. دليله على ذلك أن رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي تمكن، باعتكافه وبصلاحيات ما قبل الطائف المحدودة، من تعطيل عمل الدولة ستة أشهر، مثلما أمكن لإميل لحود رئيس الجمهورية بالتأويل المغلوط والتطبيق الأعوج أن يرهن سيادة الدولة لنظام الوصاية. هذا ما أثبتته الرئاسة العونية للبلاد التي حولت أحكام “الكتاب” أي الدستور بحسب تعبير فؤاد شهاب، إلى لعبة صبيانية تولاها مستشاروه وأتباعه من فلاسفة التمثيل المسيحي وحقوق الطوائف والحرائق والأمطار المذهبية.
إعتكف رشيد كرامي لا لينفذ مشروعاً مذهبياً بل ليجنب الجيش اللبناني أزمة يقع حلها على عاتق السياسيين. ذلك لا يلغي خصوصية مشاعر مذهبية لم ينج منها أحد في لبنان. غير أن المشاعر شيء وبلورتها في مشروع سياسي شيء آخر.
صحيح أن عواطف أهل السنة اللبنانيين مالت إلى العروبة والأغلبية الإسلامية في المحيط العربي وتعاطفوا مع القضية الفلسطينية ومع القضايا العربية، لكن أحداً من زعمائهم السياسيين لم يفرط بسيادة الدولة اللبنانية حتى في ذروة الهيمنة الفلسطينية على شارعهم. انحازوا بمشاعرهم إلى الناصرية لكنهم كانوا متعاونين ومنخرطين في النظام منذ الخيمة التي جمعت فؤاد شهاب مع عبد الناصر على الحدود اللبنانية السورية، حتى إعلان رفيق الحريري وقف العد لتطمين المسيحيين إلى المناصفة في التمثيل السياسي في الحكومة والبرلمان ووظائف الفئة الأولى.
تأكدت هذه الحقائق بجملة من المواقف، من بينها تعاطف المرجعيات الدينية المسيحية وتعاونها مع رفيق الحريري وإعلان تبرمها من التملق للنظام السوري، في عهد إميل لحود وللنظامين السوري والإيراني في عهد عون، ومن بينها الاستقبال الودود في بكركي لرفيق الحريري وفؤاد السنيورة وسعد الحريري في زياراتهم التي كانت تتكرر فيها مصطلحات الوطن والدستور والدولة والسيادة وحقوق المواطنين، لا حقوق الطوائف ولا المشاريع المذهبية.
نادي رؤساء الحكومة ولد في سياق المواجهة مع منتهكي الدستور ودفاعاً عن مؤسسات الدولة ومن بينها رئاسة الحكومة. غير أن هذا النادي سقط في زلة قاتلة يوم تضامن سعد الحريري المكلف بتشكيل الحكومة مع حسان دياب مستفظعاً استدعاءه من قبل القضاء للتحقيق معه في قضية انفجار المرفأ، ثم يوم توسط فؤاد السنيورة أعضاء النادي ليتلو باسمهم بياناً يستنكرون فيه توجيه الاتهام إلى رئيس الحكومة وحده دون سواه من أهل السلطة.
الفصل بين السلطات من مقومات قيام الدولة ومن أحكام الدستور اللبناني. الدفاع عن الدستور يتم بتحصين القضاء لا بتحصين الفاسدين والمذنبين. فساد القضاء هو من علامات الفساد السياسي، وإصلاحه لا يتم بالتهجم حتى لو كان مبرراً، بل بمواجهة الفساد في منبعه السياسي.
بيان نادي رؤساء الحكومة لا يقل خطراً على القضاء من عدم التوقيع على مرسوم التشكيلات القضائية أو من نهج ميليشيوي داخل سلك القضاء. لذلك يصح في السنية السياسية القول معكوساً: ألا تأتي أبداً خير من أن تأتي متأخرة.