Site icon IMLebanon

النّظام السياسي بين الأزمة والقضيّة اللبنانيّة

 

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن حقيقة الأزمة اللبنانيّة فغالى فريق السلطة، لا سيّما فريق الوزير باسيل وفخامة الرئيس بتصويرها على أنّها أزمة صلاحيّات بين الرئاسات. فيما حاول بعضهم الآخر تصويرها بأنّها أزمة قوانين وذهب باتّجاه التلاعب على هذه المسألة بمحاولة اجتراح قوانين؛ فيما الحقيقة في هذا السياق بأنّ جوهر الأزمة هنا يكمن في عدم تطبيق القوانين وليس في ندرتها. بينما انبرى بعض المنظّرين السياسيّين الذين نجلّ فكرهم ونحترم خبراتهم العلميّة والأكاديميّة إلى الحديث عن أزمة نظام، وراحوا يبحثون في شكل النظام الجديد الذي يتلاءم مع طبيعة التعدّديّة اللبنانيّة. فيما جوهر الأزمة والقضيّة اللبنانيّة هو في مكان مغاير تماماً حيث يبحث هؤلاء جميعهم. فما هو جوهر الأزمة اللبنانيّة اليوم التي لا تختلف عن القضيّة اللبنانيّة؟

 

لا تقوم أيّ دولة في العالم إن فقد ضلع من أضلع مثلّثها الوجودي، أعني هنا الحريّة والسيادة والاستقلال. فلبنان دولة حرّة بكلّ ما للكلمة من معنى، حتّى لو أنّ بعض الممارسات الأمنيّة تشوب هذه الحريّة بشوائب خطيرة، لكنّ جوهر الحريّة موجود في لبنان ولا يستطيع أحد المسّ به. مع العلم أنّ ذلك حصل بشكل فادح في فترة الإحتلال السوري للبنان، حيث نشطت الأجهزة الأمنيّة المشتركة بين النّظامين السوري واللبناني وراحت تعتدي على الحريّات الشخصيّة والعامّة. لكن في لحظة حريّة واحدة تجلّت في 14 آذار 2005 جرف نهر الحريّة هذه السلطة وممارساتها بالكامل.

 

أمّا الاستقلال اللبناني الذي تحقّق في العام 1943، وعاد وتثبّت في العام 2005 بعد خروج القوات السوريّة العسكريّة من لبنان، فيرزح الآن تحت احتلال إيرانيّ مقنّع بقناع يرتديه “حزب الله” اللبناني الذي سيطر على الدّولة فعليّاً منذ السابع من أيّار في العام 2008. صحيح أنّ هذه من أهمّ أزمات لبنان اليوم، أي الإحتلال الايراني عبر “حزب الله” اللبناني، لكنّها ليست الأزمة التي تشكّل القضيّة اللبنانيّة. وذلك على أهميّتها بالطبع، إلا أنّ لحظة الحريّة هذه لم تقع بعد ليتخلّص اللبنانيّون من هذا الاحتلال كما حدث مع سلفه.

 

من المهمّ إذاً التفرقة بين الأزمة والقضيّة. فمن حيث الأزمة بات واضحاً أنّ الخلاف قد يكون من طبائع مختلفة: سياسيّة، أو فكريّة، أو اجتماعيّة، أو ثقافيّة، أو حضاريّة، أو… وهذه كلّها قد تشكّل أزمات لكنّها ما أصبحت يوماً قضيّة لأنّها لم ترتبط بوجوديّة الوطن. والقضيّة الأساسيّة تكمن في الكيانيّة اللبنانيّة التي بقيت القضيّة الأم منذ فجر ولادة فكرة لبنان في زمن التكوين الأوّل لمنطقة الشرق الأوسط. لذلك نجد تكرار اسم لبنان أكثر من سبعين مرّة في الكتاب المقدّس مثلاً. وكلّ ما يرتبط بهذه القضيّة يقوم عليه جوهر بناء الدّولة.

 

استناداً إلى ما تقدّم كلّه، يتجلّى الخلاف الحقيقي اليوم. فبعدما تمّ تثبيت الكيانيّة اللبنانيّة في كيان سياسيّ واضح في العام 1920، وبعدما نجح اللبنانيّون بوضع فلسفة قيام الوطن على قاعدة دستور المفكّر ميشال شيحا 1926 وميثاق 1943 حيث لا شرق ولا غرب، وبعد ورود صيغة حياد لبنان في أكثر من 62 بياناً وزارياً منذ الاستقلال وحتّى اليوم؛ وبعد صدور اتّفاقيّة النأي بالنّفس في العام 2012 في زمن الرئيس سليمان، ما زال هنالك اليوم المجموعة الحضاريّة المرتبطة بـ”حزب الله” اللبناني خارجة على الكيانيّة التي ناضل لأجلها اللبنانيّون أكثر من ألف وأربعمئة سنة.

 

ولعلّ ذلك عائد إلى فائض القوّة الذي فاق قوّة الدّولة الحقيقيّة. فنجح “حزب الله” بتقويض سيادة الدّولة حتّى أسرها وسلبها بشكل نهائي، لا سيّما بعد 6 شباط 2006 حيث حصل على الغطاء مِن قِبل مَن كان ينظّر للقرار 1559، أي فريق العماد عون يوم كان في منفاه الباريسي. هذا الفريق بالذّات اليوم هو فريق السلطة القائمة. والخلاف معه من طبيعة كيانيّة ولا علاقة لأيّ شكل من أشكال النّظم السياسيّة بهذا الخلاف. فالنّقطة الأساس تكمن باسترجاع السيادة المسلوبة لتتحرّر الدّولة من سجن دويلة “حزب الله”. وبعد ذلك يتمّ تطبيق النّظام بالكامل ليصار إلى البحث بتطويره أو ربّما تغييره من جذوره.

 

وأيّ تغيير للنّظام اليوم في ظلّ اختلال موازين القوى، سياسيّاً وعسكريّاً، سيكون حتماً لصالح الأقوى. وأهم مَن يعتقد أنّه يستطيع بطرح سياسي ما، فيدرالي أو غيره، أن يحلّ الإشكاليّة الكيانيّة لدى قسم كبير من المجموعة الحضاريّة الشيعيّة التي تدور في فلك “حزب الله”. نحن بحاجة إلى تكوين قناعة وطنيّة ونهائيّة بالكيانيّة اللبنانيّة، وبعدها يتمّ التسليم بوجوديّة الدّولة بعد الكيان. وعندها لا يبقى أيّ سلاح خارج إطار الشرعيّة الدولاتيّة إشكاليّة في وجود الدّولة، لأنّه حتماً سينتقل إلى كنف الدّولة بفعل الأمر الواقع، حيث تصبح الدّولة وحدها الأقوى.

 

وبعد ذلك كلّه نعمل جميعنا كلبنانيّين متساوين أمام القانون والدّولة على البحث في تبديل صيغة النّظام السياسي. ومن الممكن عندها البحث بالفدراليّة أو بغيرها؛ لا مانع طالما ميزان القوى مستقيم بين المكوّنات الحضاريّة في الدولة. عدا ذلك، كلّ شيء يكون كالحطب اليابس. يشتعل عند أوّل شرارة، ويتحوّل رماداً، ويتطاير مع أوّل عصفة ريح.