يتبدى يوماً بعد يوم، أنّ الزخم السياسي الذي رافق عودة الحيوية والفاعلية إلى المؤسسات الدستورية، منذ انتخاب الرئيس العماد ميشال عون وتشكيل حكومة الرئيس سعد الحريري، يستمر في تحصين الوضع السياسي أمام أي اهتزازات يمكن أن تصيبه من هنا أو هناك. خصوصاً أنّ أياً من القوى السياسية لا يمكنه الذهاب بعيداً في إيلاء أولويات سياسته الإقليمية الاهتمام على أولوية الاستقرار السياسي والأمني في لبنان فضلاً عن التصدّي للمطالب المعيشية والحياتية الملحّة للبنانيين ناهيك عن متطلبات النزوح السوري الاقتصادية والأمنية على السواء.
وقد أتت دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمس، إلى عقد جلسة عامّة الأربعاء المقبل، «نهاراً ومساءً، لمتابعة درس وإقرار جدول الأعمال الذي كان مُدرجاً في الجلسة السابقة»، بمثابة شبكة أمان إضافية في اللحظة السياسية الراهنة، «إذ لا بدّ أن تُساهم هذه الجلسة في امتصاص بعض التشنجات التي شهدتها اللعبة السياسية أخيراً»، كما قال عضو كتلة «التنمية والتحرير» علي خريس لـ«المستقبل». خصوصاً أنّ دعوة بري هذه تأتي بعد يوم تماماً على دعوة عون إلى لقاء حواري في قصر بعبدا الإثنين المقبل، بهدف «إيجاد حل للخلاف الذي نشأ حول قانون السلسلة وقانون استحداث ضرائب لتمويل هذه السلسلة، يراعي مصالح جميع اللبنانيين من دون أن يُفقر فئة أو يغني فئة أخرى». ومن نافل القول إنّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب من جانب المجلس النيابي، بعد سنوات من الأخذ والرد في شأنها، نزع فتيلاً اجتماعياً وسياسياً لطالما أشعل الشارع اللبناني.
فضلاً عن تطويق مفاعيل التجاذب داخل جلسة مجلس الوزراء الأخيرة بشأن زيارات بعض الوزراء إلى سوريا، وكذلك اجتماع «مجلس الدفاع الأعلى» الثلاثاء الماضي، والذي أوكل إلى الجيش اللبناني أمر معارك جرود القاع وعرسال توقيتاً وأسلوب قتال، بعدما رُسمت له الخطط وأسديت له النصائح بالتنسيق مع هذا النظام أو ذلك الحزب. وهذه كلّها خطوات تؤكدّ أنّ صمّامات أمان التسوية السياسية التي أعادت بناء النصاب الدستوري في البلد فاعلة وقادرة على التدخل السريع وإعادة ضبط اللعبة السياسية ومنع الإنقلاب على توازناتها الدقيقة.
علماً أنه لا يمكن عزل اللقاء الحواري في بعبدا الإثنين، وكذلك الجلسة التشريعية الأربعاء عن المستجدّات السياسية في الأيام الأخيرة والتي كان عنوانها الأساسي محاولة «حزب الله» «تسييل» نتائج معركة جرود عرسال في المشهد السياسي اللبناني، بما يمكنّه من تظهير فوز سياسي للمحور الذي ينضوي تحت لوائه على طول المنطقة وعرضها. هذا لا يعني أنّ هذين اللقاء والجلسة موضوعهما معالجة الارتدادات السياسية لمعركة الجرود، لكنّ مجرّد انعقادهما في ظلّ عودة مناخات الانقسام بشأن قضايا السياسة الخارجية وموقف لبنان من صراعات المنطقة، يقلّص إمكانيات تعرّض الوضع السياسي لمزيد من الارتجاج.
من هنا، يرى عضو كتلة «المستقبل» النائب سمير الجسر أنّ «أي لقاء سياسي أو اقتصادي مهما كانت طبيعته، برعاية رئيس الجمهورية، ولا سيما في ظروف كالتي نعيشها هو أفضل من عدم اللقاء»، مشيراً، في الوقت نفسه، إلى أنّ «المجلس النيابي وإن كان سينعقد لاستكمال جدول أعمال الجلسة الماضية إلّا أنه يمكن لهذه الجلسة أن تُساهم في استيعاب التشنّج السياسي الحاصل».
في هذا السياق، ليس بلا دلالة أن يشهد البلد تراجعاً تدريجياً في «مستوى» الدعوات للتنسيق مع النظام السوري. فبعدما خصّص لها الأمين العام لـ«حزب الله» الجزء الأكبر من خطابه الأخير، انتقلت هذه الدعوات إلى شخصيات وقوى لم يُسمع لها صوت منذ مدّة بعيدة، وقد استأنفت نشاطها لهذه الغاية حصراً. وهذا مؤشر إلى مراعاة الحزب مقتضيات الوضع السياسي الراهن والذي لا يحتمل تصعيداً من هذا النوع يهزّ مرتكزات التسوية السياسية القائمة أساساً على مبدأ الابتعاد عن الصراعات الإقليمية، كما جاء في خطاب القسم والبيان الوزاري.
هذا لا يعني أن في الإمكان توقّع أن يتخلّى «حزب الله» نهائياً عن مطلب «تطبيع» الدولة اللبنانية مع نظام دمشق، والذي يندرج في سياق إقليمي بالدرجة الأولى متصل بالوضعية السياسية والعسكرية لإيران في الحرب السورية. إلا أنّه يمكن الاستشفاف من خطاب نواب ووزراء الحزب بعد جلسة الحكومة الأخيرة، أن الأخير ليس في وارد التصعيد السياسي إلى حد يمكن أن يؤدّي إلى تداعي اللعبة السياسية، والعودة بالتالي إلى حالات اللاإستقرار التي سادت أكثر من ثلاث سنوات في ظلّ الفراغ في سدّة الرئاسة واستتباعاته السلبية على مستوى مؤسسات الدولة جميعاً.
فكلّما تحرّك قطار المؤسسات الدستورية أمكن تحصين الوضع السياسي، كما يرى خريس، الذي يرجّح «أن تساعد الجلسة التشريعية المُرتقبة في تخفيف الانقسام الموجود حول أكثر من ملف ولمّ الشمل السياسي تحت قبّة البرلمان وإن كانت الجلسة تشريعية بحتة».
كل ذلك، يخلق انطباعاً بأنّ البلد يشهد تنافساً محموماً بين توجهين، توجّه يتمثّل بتحييد لبنان عن صراعات المنطقة والتركيز على لملمة الوضع الداخلي المثقل بأزمات عدّة تبدأ بالنزوح السوري وأعبائه على النازحين والدولة والمجتمع اللبناني، ولا تنتهي بمشكلات البنى التحتية المُتهالكة. وتوجّه ثانٍ يبدّي أولوياته الإقليمية على الأولوية اللبنانية، وهذا تنافس مرشّح للاستمرار، ولكنّ مظلات الأمان الدستورية التي وفّرتها التسوية الرئاسية الأخيرة، باتت كفيلة بالحد منه وضبطه.