IMLebanon

تركيبة لبنان الدقيقة سياسياً ومذهبياً تحول دون حكمه بديموقراطيتين وسلبيتين

إذا لم يعد اتفاق الطائف صالحاً لإقامة حكم مستقر في لبنان سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ولا لاستمرار العيش المشترك بين أبنائه، ولا للحفاظ على السلم الأهلي في نظر بعض القادة، فأي اتفاق آخر يكون أصلح منه وملبياً تطلعات وآمال جميع اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم؟

لقد طبّق لبنان ميثاق 43 فتبين لفئة لبنانية بعد سنوات من تطبيقه أنه يقيم ما يشبه الحكم الرئاسي بفعل الصلاحيات الواسعة التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية، فكان اتفاق الطائف الذي أعاد توزيع الصلاحيات على السلطات الثلاث على نحو أكثر عدالة وإنصافاً. وإذ بعد سنوات يتبين أن صلاحيات رئيس الجمهورية ليست كافية بحيث تمكّنه من أن يحكم، أو أقلّه يكون حكماً، وأن حقوق طائفة كبرى من الطوائف الثلاث لا تتساوى مع حقوق غيرها، ما أعاد الكلام على وضع اتفاق آخر بديل من اتفاق الطائف يكون أكثر عدالة وانصافاً في توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث.

لكن السؤال هو: أي اتفاق ينصف ويعدل بين جميع الطوائف في لبنان؟ أهو الاتفاق الذي يقيم نظاماً رئاسياً أم نظاماً مجلسياً أم نظام “الترويكا”، أو يقيم مجلساً رئاسياً كما في سويسرا؟ فاذا كان لبنان لا يحكم إلا بالتوافق بسبب تركيبته السياسية والمذهبية الدقيقة، خصوصاً بعد تراجع الشعور الوطني وثقافة المواطنة وتقدّم الشعور الطائفي والمذهبي، فأي نظام يصلح لحكم كهذا؟ وهل يمنع هذا النظام استعانة طرف في لبنان بخارج ليستقوي به على شريكه في الداخل فيقوم عندئذ حكم الغالب والمغلوب؟ وهو ما شهده لبنان إبان الوصاية السورية فكان لفئة فيه شعور بالاحباط والتهميش، وحتى أصبح الخارج هو الذي يتحكم بمسار الدولة اللبنانية. فإن مَن يكون قوياً بالخارج اليوم يصبح ضعيفاً غداً مع تغير موازين القوى، وهو وضع يستمر باستمرار عجز اللبنانيين عن أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وما داموا مرتبطين بالخارج أو مرتهنين له. هل يكون نظام الاحزاب الوطنية هو الذي يضمن صحة التمثيل ويضمن تنفيذ البرامج التي يعد بها، وتصبح الكلمة للشعب في اختيار الحزب أو الاحزاب التي تصلح لحكم البلاد ديموقراطياً بحيث أن الأكثرية التي تفوز في انتخابات نيابية حرّة هي التي تحكم والاقلية تعارض. وفي النظام الديموقراطي الأكثرية لا تبقى أكثرية بل تصبح أقلية، والأقلية لا تبقى أقلية بل تصبح أكثرية بارادة الشعب.

لذلك بات على لبنان أن يختار بين الديموقراطية العددية التي حُكم بها لبنان منذ عام 1943 في ظل أحزاب وطنية، والديموقراطية التوافقية التي اخترعتها الاحزاب الطائفية كي يكون الحكم فيها للأقوى في اختيار المواضيع التي ينبغي أن يكون توافق عليها وتلك التي لا تحتاج إلى هذا التوافق، وهو ما حصل بعد زوال الوصاية السورية. فـ”حزب الله” استطاع بقوّة سلاحه أن يفرض في اعتماد الديموقراطية التوافقية ما يشاء على الآخرين، فهو الذي يرفض إقرار أي موضوع مهم أو غير مهم بالتوافق، وهو الذي يرى خلافاً لرأي غيره أن هذا الموضوع لا يحتاج إلى توافق، فأشعل مثلاً حرباً مع اسرائيل في تموز 2006 من دون الرجوع إلى شريكه في الوطن، وتدخل عسكرياً لنصرة النظام في سوريا غير آخذ في الاعتبار انقسام اللبنانيين انقساماً حاداً سياسياً وطائفياً حول هذا النظام ولم يرَ في احتفاظه وحده بالسلاح تحت عنوان” المقاومة” أن هذا السلاح في حاجة إلى وفاق وتوافق بين اللبنانيين ليكون مقبولاً وله دوره الفاعل.

إن اختلاف اللبنانيين على اي ديموقراطية يريدون وعلى اي نظام يريدون، لا بل على اي لبنان يريدون أدخلهم في دائرة الفراغ وجعلهم يعيشون على التمديد للمؤسسات أو التعايش معه، خشية الفراغ الكامل الذي تدخل منه الفوضى العارمة التي تجلب الخراب والدمار وتهدد لبنان بوجوده وكيانه.

إن سلبيتين في أي ميثاق لا تصنعان أمة ولا دولة لأن لا دستور يطبق ولا وطن يبقى سيداً حراً مستقلاً، بل تحولان اللبنانيين قنابل تحت الرماد والدولة مجلس ادارة في غياب عقد اجتماعي يجدد روح المواطنة.

لذلك يصح في عدم توصل اللبنانيين إلى إجماع على الثوابت الوطنية قول وزير الخارجية الاميركي سابقاً هنري كيسينجر: “إن لبنان هو خطأ جغرافي”، أو يصح فيهم قول مسؤول أميركي آخر: “ليست هناك ضمانة لاعادة تركيب لبنان، وإذا ما حصل ذلك فمن الأكيد أن متاعب عديدة ستقع”، أو يصح فيهم أيضاً قول البروفسور ادوار لوتفك الذي كان مستشاراً في مجلس الأمن القومي الأميركي: “إن لبنان دولة وهمية وليس بمجتمع سياسي ولن يقوم فيه سلام أبداً. ففي لبنان لا توجد أمة واحدة بل أمم والعمل على جمعهم بالقوّة لا ينجح إلا إذا وجد من يقوم بدور الشرطي لإرغامهم على البقاء”…

فمن تراه يكون هذا الشرطي الذي يوحّد الامم والشعوب في لبنان وانقاذه من خطر ميثاق السلبيتين، وهل عليه أن ينتظر دخول دول المنطقة لعبة تفتيتها وتفكيكها توصلاً إلى إقامة شرق أوسط جديد لا أحد يعرف حتى الآن شكله كي يعرف أي صورة ستكون للبنان وأي هويّة؟