الحوار من دون نتائج حاسمة حول رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب، ليبدأ العدّ العكسي لعودة السخونة والمواجهات السياسية الطاحنة.
كان العماد ميشال عون يأمل، أو ربما موعوداً، بإنجازات حول طاولة الحوار، تُشكّل مقدمة لإنتخابه رئيساً للجمهورية في جلسة الثامن من آب. لم يكن تفاؤل عون آتياً من فراغ، بل من خلال سلسلة مؤشرات ارتكزت الى موقف الرئيس سعد الحريري.
كان الوزير جبران باسيل محور «الحركة السرّية» في الملف الرئاسي من خلال قنوات جانبية، ولكن أمنية، بهدف تذليل العقبات الموجودة أمام وصول عون الى قصر بعبدا واستغلال مناسبة الحوار لثلاثة أيام متتالية كما أرادها ودعا اليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي لإقرار البنود التي تُمهّد لوصوله الى قصر بعبدا.
فتح باسيل ملف النفط مع برّي بعد طول انقطاع، آخذاً في الاعتبار الشروط التي كان يضعها رئيس المجلس النيابي، خاتماً زيارته الشهيرة بسؤال حول موقف برّي الرئاسي من عون. وتلت زيارة باسيل الى عين التينة زيارة نادرة لعون.
لكنّ الخطوط السرّية تركزت على محورين: الأوّل مع النائب وليد جنبلاط من خلال وزير الصحة وائل أبو فاعور الذي شكّل صلة وصل دائمة مع باسيل وقد أنتجت هذه العلاقة السرّية تقدماً لافتاً في موقف جنبلاط ولكن مشروطاً بنيل موافقة الحريري، مع وعد جنبلاطي بالسعي من جانبه إلى تدوير زوايا الحريري.
أما المحور الثاني، وهو الأهم والأكثر سرّية، فكان مع الحريري من خلال مدير مكتبه نادر الحريري الذي كان يتواصل في استمرار مع باسيل، حيث تُطرح كلّ التصوّرات التي يجب أن ترافق وأن تلي انتخاب عون. صحيح أنّ نادر الحريري يمضي معظم وقته في فرنسا لكنّ التواصل كان ناشطاً ولو أنّ اللقاءات بقيت معدودة. وكان وزير الداخلية نهاد المشنوق ناشطاً جداً على هذا الخط أيضاً.
وعلى هذا المحور بدت الأمور أفضل بكثير من السابق. طرَح الحريري شرط بقائه رئيساً للحكومة طوال السنوات الأربع التي ستلي الانتخابات النيابية. كذلك طرح مبدأ إطلاق يده في الملفات الاقتصادية ووضع رؤية جديدة لرفع مداخيل الخزينة وتطرّق الحوار الى ملفات أخرى بما فيها ملف النفط.
وكان الحريري يُبدي مرونة خصوصاً أمام القريبين منه، ويُردّد أنّ خياراته الرئاسية ليست مقفلة على أحد بما فيها خيار عون، ما رفع من نسبة التفاؤل. يومها كانت أجواء «حزب الله» الفعلية أنّ عون اقترب من قصر بعبدا وأنه سيُنتَخب رئيساً للجمهورية خلال المرحلة المقبلة، وباشرت قيادة الحزب تحضير ملفات التشاور مع عون لرسم صورة مرحلة ما بعد وصوله، وربما انطلاقاً من هذه الأجواء تحدّث حلفاء «حزب الله» ومنهم الوزير السابق وئام وهاب عن حتمية انتخاب عون في شهر آب.
ولأنّ الموجة كانت تفاؤلية، اندفع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في جولة تهدف إلى التأكد من صحّة الواقع التفاؤلي، ولو تحت عنوان السعي شكلاً للدفع بخيار عون، وهي حركة قلقة بغلاف إيجابي.
لكنّ الحريري الذي لم يكن ضامناً للموقف السعودي تواصل مع السلطات الفرنسية واضعاً إياها في أجواء نقاشاته السرّية، طلباً للمساعدة لبنانياً وربما سعودياً.
يومها انفتح الملك السعودي على الحريري، وجرى الدفع بالحلول المالية لأزمته، وقيل إنّ السعودية لم تكن مؤيّدة لخيار وصول عون، وإنّ موقفها يُعبّر عنه جيداً الرئيس فؤاد السنيورة.
وقيل أيضاً إنّ مسؤولين سعوديّين أجابوا بعض المستفسرين اللبنانيين أن لا علاقة للسعودية بالاستحقاق الرئاسي اللبناني، لكن في حال وصول عون واتخاذه أوّلَ موقف رسمي لا يتناسب والمصالح السعودية، فإنّ المملكة ستعمد فوراً لإعادة 300 الف لبناني موجودين عندها الى بلادهم واسترجاع ودائعها المالية وقطع التعاون الموجود، فهي في حال حرب مع إيران وما يسري على جبهة يسري على أخرى.
عندها بدأ مزاج الحريري يتبدّل، فالجواب السعودي لا يحتمل التأويل.
وعندما زار وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت لبنان حاول من زاوية بلاده دفع الأمور الى الأمام، ذلك أنّ باريس شأنها شأن معظم العواصم الغربية تريد إنجازَ الاستحقاق الرئاسي أيّاً يكن اسم شاغل قصر بعبدا. وخلال لقائه النائب سليمان فرنجية سأل الزائر الفرنسي عن إمكانية انسحابه من السباق الرئاسي، فأجاب فرنجية أنّ هذا ممكن في حال حصول إجماعٍ لبنانيٍّ على المرشح الآخر.
وعندما زار وزير الخارجية الفرنسي رئيس المجلس النيابي، أبلغه أنّه سمع من فرنجية أنّه مستعدٌّ للانسحاب من السباق الرئاسي لكن من دون إيراد كامل الموقف الذي يشترط حصول إجماع لبناني.
وبعدما استوضح برّي فرنجية ما نقله إيرولت، تمّ الاتفاق على زيارة رئيس «المردة» لعين التينة حيث يُدلي بتصريح يوضح من خلاله هذه النقطة، وهذا ما حصل. وخلال لقائه بوفد «حزب الله»، طرح الوزير الفرنسي موضوع رئاسة الجمهورية معتبراً أنّ الحريري يريد ضمانات مقابل انتخابه عون، وأنّ «حزب الله» هو الجهة الصالحة لتثبيت هذه الضمانات.
وكان جواب الحزب أنه «في الملف الرئاسي عليكم مراجعة العماد عون ونحن نلتزم ما يوافق عليه».
وفي قصر الصنوبر، سأل إيرولت عون عن الضمانات التي يطلبها الحريري، وكان الجواب: «ليعلن الحريري أوّلاً تأييده إنتخابي، وبعدها نبحث في كلّ الباقي، وسنكون إيجابيين».
لكنّ الواضح أنّ الخلفية الإقليمية فرملت كلَّ الحركة، وأنّ خطوة بهذا الحجم لا تحظى بالرعاية الإقليمية لا يمكن لها أن تعيش طويلاً.
وفي كلمته الاخيرة، تطرّق الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، إلى الملفات الحياتية والأهم رفض أيّ زيادات ضريبية جديدة، مع الاشارة الى الفساد الذي ينهش المؤسسات اللبنانية. كان هذا الكلام بلا شك جواباً على قسم من الضمانات التي طلبها الحريري عبر القنوات السرّية. والأهمّ أنّ نصرالله لم يتطرّق الى ملفين أساسيين: رئاسة الجمهورية والنفط، ولهذا الامر معناه الواضح.
وخلال الاجتماع الأخير لكتلة «المستقبل»، ظهر بوضوح نعي الخيار الذي شغل الكواليس السياسية. تحدّث الحريري عن ثلاثة خيارات: الأوّل انتخاب فرنجية والثاني وصول عون والثالث الاستمرار في الفراغ. وأضاف «أنّ أيّ اسم ثالث أصبح مستحيلاً خصوصاً في ظلّ حصر الترشيح بالأربعة الاقوياء».
وشهد الاجتماع نقاشاً، وكان لجواب احد النواب وقع مختلف حين قال: «لماذا يا دولة الرئيس تُخيّرنا بين الانتحار من الطابق 12 أو الطابق 11 أو الطابق العاشر؟»
وفيما جهد المشنوق في نفي سعيه لوصول عون، كما يروّج لذلك البعض، مؤكداً أنه يريد فقط إنقاذ لبنان من الفراغ الذي قد يدمِّر البلد، بدا للحريري أنّ الغالبية العظمى من النواب كانت رافضة خيار عون. والأرجح أنّ الحريري كان يدرك ذلك سلفاً، وهو الذي سمع موقف الرياض لكنه أراد إيجاد مخرج داخلي لتراجعه، ومعه بدت جلسات الحوار الثلاثية محكومة بالفشل ومضيعة للوقت.
لكن بعدها، سيباشر عون ومعه «حزب الله» الهجوم من زاوية الملفات المطلبية، وهناك مَن يتحدث عن تنظيم تظاهرات وتحريك الشارع تماماً كما يفعل المجتمع المدني، وقد يؤدّي ذلك في نهاية المطاف الى طرح الشراكة والبنود الدستورية على طاولة البحث.
خبير في الملف اللبناني بدا واثقاً من أن لا حلَّ لأزمة الرئاسة إلّا من خلال سلّة كاملة متكاملة، وهو يقول إنّ لذلك طريقاً من إثنين: إما حصول تدهور أمني داخلي يُلزم العواصم الكبرى التدخل ووضع تصوّر للحل، أو إدخال لبنان عنوة ومن خلال قرار كبير في تسوية كبيرة سيكون موعدها مع إنجاز التسوية في سوريا مطلع الربيع المقبل مع وصول إدارة أميركية جديدة، وهذا هو الأكثر ترجيحاً.