القاسم المشترك بين أطراف الطبقة السياسية في لبنان هو المطالبة الدائمة بالمشاركة في السلطة من خلال امتلاك حصص وأحجام وأدوار بمعزل عن رأي الناس أي أن المقترعين متشابهون في الأهداف التي يسعون إليها وإن اختلفت الوسائل بعض الشيء، فالسلطة هي باب للمضي في نهج الإثراء غير المشروع الذي يجمع بينهم، كما هي المفتاح للإفلات من أي حساب، فهناك أسوار الحمايات التي تبدأ بـ«حصانات» فوق القانون، ولا تنتهي بسيف «الارتياب المشروع» الوسيلة الأفعل لوضع أي ملف في أدراج النسيان!
يقول موريس دورون عضو الأكاديمية الفرنسية إن السياسيين الذي يصرون بأي ثمن على المشاركة في السلطة، «هم عادة الذين يقيسون قوة وفاعلية سلطتهم بعدد الخدمات التي تطلب منهم من قبل مواطنيهم». و«الخدمات» هنا، هي المنحى الزبائني الذي يحمي التسلط، وكل ما ينجم عنه من فساد وإفساد للحياة السياسية، ويوفر كما في الحالة اللبنانية، غطاء الأتباع للارتهان والتبعية. بالتالي لا يعود مستهجناً أنهم يقفزون ببساطة فوق مآسي الناس التي لا حصر لها!
وُصِفت كل الحكومات التي قامت بعد عام 1990 بأنها حكومات «وحدة وطنية»، ولم تكن تعبر لا عن وحدة ولا عن وطنية، بل أريد منها إنهاء دور السلطة التشريعية الرقابي فتهمشت المجالس النيابية المتعاقبة، وبات التشريع عملية «غب الطلب»! وهكذا أفضت المشاركة (مثلاً جمع الخاسر مع الرابح) إلى جعل السلطة مضمحلة تقود إلى الانحطاط، ما أفضى إلى الواقع الخطير الراهن المتمثل بأن كل اللبنانيين خسروا كل شيء فيما ربح تحالف مافيا ميليشيات الحرب والمال كل شيء.
الأنكى أن الرابحين هؤلاء الذين فازوا بكل شيء، هم اليوم بكل المقاييس ممن انتهت صلاحيتهم وأهليتهم، ليس بوسعهم تقديم أي فكرة تخدم الشأن العام، ولا استنباط أي علاج ولو كان مؤقتاً لأي قضية، ولا مصلحة لهم لأن المصالح الشخصية الضيقة هاجسهم الوحيد. إنهم مجموعة من الفاشلين المنعدمي الكفاءة التابعين ترعاهم القوة التي تقف خلفهم؛ بالأمس جيش احتلال النظام السوري واليوم الدويلة الواجهة لهيمنة النظام الإيراني، تحركهم وتسيّرهم وفق أجندتها الخاصة، ولا بأس أن تترك لهم الحبل على غاربه لملء الفراغ الذي يعيشونه في التلاعب بأخطر انهيار أوصل البلد وأهله إلى الحضيض وهم من تسبب فيه.
السقوف العالية والمطالب العرقوبية إنْ لجهة مضمون الرسالة الرئاسية إلى مجلس النواب أو الردود عليها والتناحر بشأن تأليف حكومة بالكاد سيكون بوسعها إدارة الأزمة، تدور كلها تحت عناوين صراعية من نوع صلاحيات المواقع وحقوق الطوائف والبلد في انهيار مريع، إذ يهدد التفكك بضرب آخر المؤسسات مثل القضاء والجيش. الكل يتناسى «تروما» يعيشها الناس بعد نحوٍ من 295 يوماً على تفجير المرفأ وتدمير قسم من العاصمة، وبعد سقوط الحكومة الواجهة، حكومة تزخيم الانهيارات والتسبب في الأزمات وعزل لبنان عن حاضنته العربية.
آخر الأمثلة عن الأداء المفجع أنه بعد فضيحة «نيترات الرمان» وتداعياتها الخطيرة، شكلت إبداعات وزير الخارجية المستقيل شربل وهبة الصدمة، عندما ورّط هذا الوزير البلد في سياسات تمنع أي محاولة لإنقاذه. ورطه في سياسات لا تحترم المصالح الوطنية بل تضرب بها عرض الحائط، وتستخف بمصالح مئات ألوف اللبنانيين من أبنائه. سياسة تحكم عليه بالالتحاق بمشروع الهيمنة الإيرانية الذي يستهدف البلد ويعادي كل العرب!… ولأن السلطة مضمحلة عالقة بالقشور حاولت الاستدراك بزعم أن موقف الوزير مجرد اجتهاد شخصي لا يعبر عن الموقف الرسمي للدولة والرئاسة، فيما هو في منصبه يمثل لبنان حيال الخارج!! لم يطرد كما لم يُساءل أو يُحاسب، بل كان صادقاً في التعبير عن نهج الفريق الذي ينتمي إليه!
عميقة هي الهاوية التي يدفع إليها البلد ولا قعر لها، كما لا حلول مع هذه السلطة لأي أزمة، وكل ما يسمعه المواطن «لعي بلعي»؛ فقرض البنك الدولي وقيمته 246 مليون دولار لدعم الأسر الأكثر حاجة يكاد يطير لأن إقراره يتطلب وجود حكومة تلتزم مندرجاته، واستئناف الحوار مع صندوق النقد الدولي متعذر مع حكومة تصريف الأعمال، و«التدقيق الجنائي» في حسابات مصرف لبنان ومغاور علي بابا الطبقة السياسية غير ممكن لأنه يتطلب حكومة تقر الاتفاقية المطلوبة، وكل الأحاديث عن بطاقة تمويلية تؤمن القليل لدرء المجاعة عن نحو 750 ألف أسرة ممن يعيشون على خط الفقر وتحته كلام بالهواء لأنه لا تمويل للمشروع.
بالموازاة، يشهد لبنان سابقة تاريخية على أيدي الطبقة السياسية المتسلطة التي تنظم عمداً تهريب السلع الرئيسية المدعومة من جيوب المواطنين، بهدف تمويل دويلة الأمر الواقع وميليشيات نظام آخر! يقابله ازدياد الخزي مع مشهد الطوابير على محطات الوقود وأمام الأفران فيما بات وجود الدواء عملة نادرة! إزاء هذا التردي، تتواصل حفلات الزجل في علم الفقه الدستوري، ما أحكم من طوق الأزمات المستعصية على التسوية، نتيجة توافق غير معلن على تعليق الدستور! لكن ما يستحيل تغطيته هو الانقسام العمودي في لبنان بين متسلطين يغطون اختطاف الدولة وانتهاك الدستور وفرض قوانين استنسابية، وبين أكثرية شعبية تريد السلطة إبقاءهم رهائن دائمين!
الأمر الأكيد بعد أكثر من 19 شهراً على بدء «17 تشرين»، أن المافيا المتحكمة انتهت صلاحيتها وطنياً، وحجر الرحى لقلب الصورة البائسة، يقع على عاتق قوى التغيير التشرينية، المطالبة بابتداع آليات كفاحية للدفاع عن مصالح المواطنين باتجاه تغيير المنحى العام، كما لقلب صفحة اللاعبين السياسيين الطائفيين الذين تكرر وجودهم على مسرح الأحداث كل العقود الماضية. لقد قدمت «17 تشرين» صورة أعادت الأمل بأن التحرير الذي تحقق قبل 21 سنة يمكن أن يُصحح باستعادة الدولة المخطوفة ليعود دورها المحوري، وأكدت كل المحطات الماضية أن أولويتها واستراتيجيتها بلورة ميزان القوى الذي يُعوّل عليه في إعادة تكوين السلطة وتقديم البديل السياسي.
كل التجربة الماضية في تعرية الطبقة السياسية وسقوطها أخلاقياً بعد كشف جرائمها ورفع سيف العقوبات الخارجية بوجهها، تؤكد أن كل تقدمٍ على هذا المسار، سوف يستقطب دعم أصدقاء شعب لبنان، بحيث يقترب زمن التغيير، رغم ما تمثله قوى الهيمنة الخارجية وأدواتها الداخلية من تحدٍ… كما تحدي الخطر الإسرائيلي المحدق بالثروة والحقوق والحدود.