أنقل مترجماً بخجل ما كتبه الجنرال هنري دينتز (1881 – 1945) الحاكم العسكري للبنان في مذكّراته إبّان الحرب العالمية الثانية:
«كنت ممثلاً لحكومة فيشي في لبنان، وعلى تواصل مع المخابرات الألمانية. وكنت، في الوقت نفسه، أعمل بسريّة تحت قيادة ديغول لتحرير فرنسا من الإحتلال الألماني. أذهلتني، خلال خدمتي هذه، الطبقة السياسية في لبنان، إذ كانوا يتوافدون إلى مكتبي معلنين تأييدهم لحكومة فيشي وللألمان، وكانت تصلني تقاريرهم إلى مكتبي مركزين فيها على اتهام بعضهم بعضاً بالعمالة لبريطانيا وديغول. وعندما كان يصلني البريد السري من ديغول كنتُ أُفاجأ بأن هؤلاء الأشخاص أنفسهم يراسلون ديغول سرّاً معلنين الوفاء له ولفرنسا الحُرّة، ويتّهمون بعضهم بعضاً بالعمالة لحكومة فيشي. كانوا يستفيدون من الجميع ويبيعون كل شيء، وحين أسألهم عن مطلبهم يجيبون: نريد لبنان سيداً حراً مستقلاً……..». لا داعي للإستمرار في النقل.
لماذا هذه الإستهلالية؟
لأنّنا ما زلنا بلسانين وخطابين ورأسين ولبنانين ولأن ما قاله معظم النواب اللبنانيون في الطائف يناقض كلّياً ما قالوه سرّاً فور عودتهم من الطائف إلى لبنان. يمكنني الكتابة في الموضوع 33 سنة…. حول الجمهورية الضائعة والمعلّقة والمفتّتة إلى سبع جمهوريات.
ما أن عيّن النواب (بقايا برلمان 1972) العائدون من الطائف نوّاباً أو زملاء لهم اختاروهم فقط لتعبئة الشغور الحاصل في البرلمان حتّى دُفنت الديمقراطية. طرحتُ إتّفاق الطائف على طاولة البحث الأكاديمي لطلاّبي في كليّة الإعلام والعديد منهم صاروا وزراء ونواباً وإعلاميين مرموقين في لبنان والخارج. قمنا خلال عامٍ دراسي كامل 1991 – 1992، بتشريح نصّ وثائق الطائف والدستور، ووقفنا في مقابلات على آراء بعض النوّاب الذين شاركوا بإقرار الدستور الجديد إلى شخصيّات روحية وسياسية. حمل الطلاّب تساؤلاتهم العفوية والصريحة لـ: سليم الحص، إدمون رزق، جورج سعادة، محسن دلّول، نجاح واكيم، زكي مزبودي، عُثمان الدنا، بيار دكّاش، محمد بيضون، سايد عقل، نايلة معوّض، نسيب لحود، نجاح واكيم، سمير جعجع، المطران رولان أبو جودة، السيّد محمد حسين فضل الله، المطران جورج خضر، الإمام فيصل السيّد، كريم بقرادوني، منح الصلح، واللائحة طويلة.
ناقشنا ودوّنا الكثير من الملاحظات متفاهمين على الكتمان فريقاً، بعدما اكتشفنا أنّ مواقف معظم أهل الطائف يشبهون الليل والنهار في تبدّل مواقفهم بين المُعلن والمُضمر في دستور الطائف. ظهر الدستور اتّفاقاً بلا روحية، والوطن يُنذر بالكوارث، مع أنّنا لم نتمكّن يومها، من الحصول على الملاحق والتواقيع والضمانات من اللجنة العربية العليا (المملكة العربية السعودية، المملكة المغربيّة والجزائر) وكذلك الإتّفاقات الجانبية المنبثقة عن وثيقة الإتّفاق، وكلّها أعادت النظر، في الكثير من النتائج الصادمة بما أوقعنا في التشاؤم. جمعنا المقابلات في مخطوط مجلّد وجاهز للطبع (344 صفحة) بعنوان «شاخت الجمهورية الثانية في عامها الثالث».
لماذا الثالث؟
لأنّ الرقم «ثلاثة» مقدّس في الفلسفات القديمة والحديثة، حتّى أنّ علماء النفس والتربية ينصحون برعاية الأطفال جيّداً خلال السنوات الثلاثة الأولى من أعمارهم، لأنّ ملامح الشخصيّة القاعدية تتكوّن خلال هذه السنوات.
وسرعان ما لمسنا بالممارسة والخلافات السياسية باستحالة الخروج من تاريخ ممارسة السلطات المحفورة في الجينات ، وكأنّ لا ملامح نافرة للجمهورية الجديدة، ولا يمكن قياس مدى صلابتها في التاريخ القادم. كنّا نتسامر على أبواب المآزم الجديدة المفتوحة في الحكم. وكانت عدّتنا واضحة في نصوص المقابلات الحرّة والسريّة والواضحة العائدة لمجمل أهل الطائف على تنوّعهم.
مثال سريع: قال نائب مسيحيّ من الذين شاركوا بوضع دستورٍ جديد للبنان في مقابلته: «إنّ اتفاق الطائف سقط قبل أن يجفّ حبره، لأنّ النص مطلوب بل مفروض لأن يكون على قياس بعض الأشخاص، إذ كان يجب توسيع اللباس أو تضييقه أو قصه». وقال نائب مسيحي آخر أصبح وزيراً لمرّتين، وشديد الحماس للدستور الجديد، وكأنّه أحد المُوكل إليهم مهمّة تسويق الطائف الشاقّة في الإعلام:
«أن الطائف ينهار قبل أن يبدأ. إنّه على وشك النهاية».
ألا تدعو هاتان اللُمحتان للإستغراب يومذاك بما يجعلنا ندرك بعد 33 سنة، بعقلانية واعية فنستوعب بكلّ أريحيّة ونضج وخارج كلّ هذه الإنهيارات والتقاذفات والتهديدات بتعداد المواطنين مجدّداً أو بوقف تعدادهم طائفيّاً على ما أعلن نهائيّاً الرئيس رفيق الحريري. أنّ كلّ ما حصل ويحصل قبل الـ2005 تاريخ اغتياله وبعده لا علاقة وحيدة بالخارج لولا هشاشة الداخل، وليس هو نتاج تدخّلات الخارج فقط، بل سلوك رسّخته أمراض الإزدواجية في القول والسلوك والحكم.
قد يُطرح سؤال ملحّ : لماذا لم تُنشر هذه المخطوطة بعدما أتعب لبنانك الزمان وأهله؟
لأنّها كانت سترفع الأغطية عن مرض الإزدواجيات في ألسنة بعض النوّاب ومواقفهم وقد تضعهم في دوائر الخطر والكذب. كان نشرها مسؤولية أخلاقية ووطنية لكونها مقابلات حرّةً ومفتوحة ولأغراضٍ جامعية، لم نعدّها اساساً للنشر بل للاحتفاظ بها كوثائق يسمح الزمن بنشرها لأمور ملحة وضرورية. وإنّني أعرضها للنشر….. اليوم.