IMLebanon

كلامٌ على أَلْسنةِ الطير

 

… كلّما التقطنا القلم ينْـتابنا الهـمُّ والإرتباك ونكرّر السؤال: علامَ نكتب، ولماذا نكتب ولمن..؟ حتى بتنا نخجل بما نسبِّب للأقلام من إرهاقٍ بلا جدوى.

 

الكتابة لا تُجدي مع العقل الملوّثِ بالجهل، وإنّ أبـرز ما جعل الإنسان ينتقل من عصر البدائية إلى المدنية هي الكتابة.

 

كتبنا.. ونكتب ويكتبون، وإنّ ما كتَبوهُ وكتبنا لـو تقطَّر منه حبـرٌ على صخر لكان انْشَطر.

 

لقد جمعنا ما استطعنا من القرائن والبراهين والبيِّنات عن أنبياء وفلاسفة وحكماء وأدباء وعلماء سياسة واجتماع، لعلّهم يقرأون ويتبصَّرون، فكنّا كمَـنْ يكتب بالرمل على الرمل وكلاماً في الليل لهارون الرشيد.

 

ورأينا، بعـد البحث والتنقيب في المراجع الأدبية والفكرية والتاريخية، أنّ أفضل ما نلجأ إليه هو كتاب «كليلة ودمنـة» لإبـن المقفّع، لعلّ الذين لم يفهموا الكلام الذي تتناقله ألسنة الأقلام، يفهمون ما تنطق بـهِ ألسنة الطير والبهائم.

 

مع أننا نعتقد أنَّ أهل السياسة عندنا، لم يسمعوا بهذا الذي إسمه إبـن المقفّع، ولا بـما كتب في «كليلة ودمنـة «والأدب الكبير» «والأدب الصغير…» ولا تعنيهم كـلُّ أنواع الأدب في المطلق: لا الأدب الفكري ولا الأدب السياسي ولا الأدب الأخلاقي.

 

إلاّ أن حكمة إبن المقفّع تظـلّ عندنا الأقرب إلى أهل الحكم، فهو من أصل فارسي واكبَ العصر العباسي وقاد حركة «الإصلاح والتغيير» على لسان الأخوين «كليلة ودمنة» المختلفينِ في مذاهبهما، فكان يواجه الفساد والظلم ويوجّـه إلى الملوك والحكام رسائل في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق والإرشاد السياسي.

 

ولأنّ زمانه كمثل زمامنا وكان يخشى مغبّة انتقام الحكام، راح يطلق العظاتِ والحِكَـم على ألسنة الطير والبهائم بما يشبه المآسي الأخلاقية، ورأى أنّ حاجة الناس إلى الآداب والأخلاق أشـدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب.

 

في باب الأسد وإبـن آوى والحمار… والثور والسنَّور، والقرد والثعلب والأرنب: يستخلص إبـن المقفّع: «أنّ على الملوك ألاّ يفضّلوا أقاربهم وأهلَ خاصتهم ولا أغنياء الناس وذوي القوة منهم، ولا يمتـنعوا عن صنع المعروف إلى أهل الضعف والفاقة…».

 

ويتضح من حوارات أهل الغاب، أنّ الخلفاء يميلون إلى الغدر من جرّاء سوء الظنّ الذي يوقعهم بـه رجال المساعي الخبيثة… وأنّ الأسد الذي قـرّب الثعلب إليه وإئتمنه على أسراره وشاوره في أموره، إنتقل إليه مرض السلطة.. وهو داء فتّاك يصعب الشفاء منه…

 

إذا كان المثل المأثور يقول: خذوا الحكمة من أفواه المجانين فهي من أفواه الطيور والبهائم أصدق، على أن يتّعظَ بها الناس، وبـدل أن تقتدي الدولة العباسية بما جاء في «كليلة ودمنـة» لإنقاذِ نفسها، فقد قادها الجنون إلى قتل إبـن المقفع إنتقاماً بأمـرٍ من أبي جعفر المنصور، فاستشرى فيها الفساد وساد حتى الإنهيار.

 

رحمة الله على إبـن المقفع وهنيئاً للبهائمِ والطيور.