يسُوق منتمون الى جمهور «الممانعة» بمختلف تلاوينها القومية والدينية، مبررات متنوعة لما يرتكبه قتلة إرهابيون في انحاء مختلفة من أوروبا والعالم، سواء كانوا تابعين لتنظيمي «داعش» و «القاعدة» أو مجرد «ذئاب منفردة» تأثروا بدعايتهما، فيعيده بعضهم الى انعكاسات غزو العراق، والبعض الآخر الى المرحلة الاستعمارية، وربما الى الحروب الصليبية أو ما قبلها. ويشمت بعض ثالث، وبينهم بشار الأسد، صاحب الرقم القياسي في الجرائم ضد الإنسانية بعد هتلر، من «ارتداد الإرهاب على داعميه».
لكنهم ينطلقون جميعاً في هذا الربط من موقع المتفرج على ما يحصل في مكان آخر ليس مكانهم، او يطاول أشخاصاً لا يعنيهم أمرهم، على رغم أن بين الذين يفتشون عن أسباب وذرائع للعنف الأعمى من يقيم على أرض المستهدَفين وبين ظهرانيهم، ويعيش في ظل نظامهم المؤسسي المنفتح الذي اتاح لهم هذه الفرصة ومنحهم ما لم يجدوه في دولهم. وهؤلاء يحرصون، حتى في لجوئهم، على إبقاء المسافة الفاصلة بين الـ «نحن» والـ «هم».
وفي كل الحالات، ينقل جميعهم الفعل الإرهابي من خانة الجريمة الى خانة السياسة، كي يخففوا من وطأة جرمه وتناقضه مع أدنى مفاهيم الانسانية، ويهربون به من الأقلوية الى التعميم لإراحة ضمائرهم، ويدرجون قتل الأبرياء الذين لا يفوتهم استنكاره رفعاً للعتب، في إطار «الخسائر الجانبية» التي تحصل في الحروب والمواجهات والثورات وما شابهها. ولا يعيرون أدنى اهتمام للمسالمين الذين يتلقون العنف ويعيشون لحظات الهلع والذعر، فيما هم غير معنيين بتاتاً بكل هذا التاريخ من العداء الذي يلصق بهم، او بقرارات الحرب والتدخل التي اتخذتها دولهم، غالباً من دون العودة اليهم او على رغم معارضتهم.
وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن يصبح المبرّرون انفسهم ضحايا تبريراتهم. فهم ينأون بأنفسهم عن مرتكبيها على رغم الأسباب التخفيفية التي يمدونهم بها، وربما يأتي سريعاً اليوم الذي يتحملون فيه وزر ما يفعله الإرهابيون. لأن تعميم العداء وقرنه بالتاريخ والقومية والإثنية والعرق والدين، سلاح ذو حدين قد يصيبهم ايضاً.
فالهدف الرئيس للتنظيمات العنفية، وهي اليوم تكاد تكون محصورة بالإسلاميين المتطرفين، إقامة حد فاصل بين «المؤمنين» و «الكفار» او بين «المظلومين» و «المعتدين»، وكأن هذه التصنيفات الفضفاضة تصح في كل زمان ومكان ويستحق من يُدرج تحتها العقاب او الثواب اللذين يعود الى الارهابيين تحديدهما، وبحيث لا يعود ممكناً التفريق، إذا صح أن هذه الصلاحية منوطة بأحد ما أصلاً، بين متورط وبريء وبين متشدد ومعتدل وبين مؤيد ومعارض وبين عنصري ومتسامح.
ويؤكد اقتراب مثل هذا الاحتمال ما يدور اليوم من نقاشات سياسية واجتماعية في دول ومدن كانت عرضة للإرهاب وتجسيداته الوحشية من تفجير ودهس وطعن، في شأن كيفية التمييز بين الاعتدال والتطرف، وتحديد منبع العنف وأصوله الاجتماعية والدينية والسياسية، وما يتخلل ذلك من أفكار ودعوات متشددة تطالب احياناً بالرد الجمعي على اتباع دين بعينه، وهم هنا المسلمون، أو جاليات بعينها من عربية وآسيوية، بلا تمييز، وصولاً الى قوانين تحد من الهجرة واللجوء او تمنعهما، وتقيد حقوق من حصلوا عليهما.
لكن الأكثر مدعاة للقلق، هو أن رقعة التسامح والتعاطف الشعبية مع المجموعات «الأقل حظوة» تتقلص، وأن المواطن الغربي العادي بات أكثر قبولاً لأفكار واجراءات تتناقض مع ما نشأ عليه من مفاهيم في المساواة وحقوق الانسان، بعدما بات يخشى على نفسه وبلده من أي شخص ذي سحنة شرقية يلتقيه في الشارع او القطار او المطعم او الجامعة. ولن تنفع أحداً بعدها تبريراتٌ ولا ذرائع ولا تنظير ولا «ممانعة».