هناك في بلادنا للأسف مجموعة امتهنت السياسة من دون إدراك معناها الحقيقي، فهي بتعريفها الوحيد خدمة المجتمع والمواطن والعمل للمصلحة العامة. بل اعتبر هؤلاء انّ المنصب هو مكافأة وتتويجاً لمسيرتهم، وانّهم نجحوا بمجرّد الحصول على المنصب والاحتفاظ به لأطول فترة ممكنة.
في اختصار، مناصب الدولة ليست جائزة ترضية، أو مهنة دائمة تطبع الأشخاص، بل يجب ان تكون فترة خدمة للمجتمع محصورة بوقت معين. فيتطوع من كان ناجحاً في عمله ويملك الخبرة، ليخدم بلده لفترة معينة ويعود بعدها لاستكمال مسيرته العملية والإنتاجية وغيرها. وبالطبع يُشترط بمن يود القيام بهذه المهمة ان يكون ناجحاً لانّه ببساطة، من يريد ان يدّل الناس الى الطريق، المفروض ان يكون قد سار على هذه الطريق.
كما انّ تثبيت فكرة انّ المنصب هو لفترة محدودة تساعد في مشاركة أكبر عدد من الخبرات في إدارة الدولة، وتدفع المسؤول ليبذل أقصى جهد لتطوير المجتمع والقوانين، لأنّه يعرف انّه سيعود حكماً الى هذا المجتمع بعد انتهاء خدمته وسيستفيد كمواطن مما أنجزه حين كان في منصبه.
في الديموقراطية الأثينية القديمة كان يتمّ تناوب جميع أعضاء مجلس الحكم سنويًا. في الجمهورية الرومانية، كان هناك قانون يفرض حدًا لمدة ولاية واحدة على مناصب: القناصل – القضاة ـ السيناتور، تتراوح بين سنة الى ثلاث سنوات، كما منع إعادة انتخابهم حتى مرور عدد من السنوات. واعتبر المؤرخ غاريت فاجان، إنّ الحكم في الجمهورية الرومانية كان قائمًا على «فترة محدودة من المنصب» والتي تضمن «تداول السلطة في شكل متكرّر»، مما يساعد في منع الفساد. من المزايا الإضافية لتداول السلطة هو جلب السياسيين «الأكثر خبرة» إلى المستويات العليا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك حدّ لمدة 6 أشهر للديكتاتور( cursus honorum، دستور الجمهورية الرومانية).
انّ السلطة إغراء في حدّ ذاتها، ولذلك يجب على كل من يريد خدمة مجتمعه عبر منصب ان يقاوم هذا الإغراء دائماً، وان يتذكر انّ مصلحة المجتمع والبلد يجب ان تكون فوق كل اعتبار. وان يتذكر انّ معيار نجاحه لا يتمثل بحصوله على المنصب فحسب، بل بنجاحه في تطوير مجتمعه وزيادة الانتاج وإراحة الشعب.
انّ عقلية امتهان السياسة تنطوي على كثير من المساوئ، وتعوق تقدّم المجتمع وقد تؤدي الى الآتي:
1- تهميش كثير من الخبرات والطاقات، والتي ستقلّ حظوظها بالمشاركة في خدمة المجتمع، وسيخسر البلد خبرة هؤلاء.
2- عدم السماح لأفكار جديدة قد تكون فعّالة في ادارة الدولة، فتستمر عقلية الحكم نفسها والحلول نفسها والخطط، بسبب سيطرة العقليات نفسها على المراكز. المداورة ستكون مفيدة في ضخ أفكار ووجهات نظر أحدث والاستفادة منها لتعزيز الإنتاجية.
3- إضعاف المحاسبة، فيعرف المسؤول أن لا مداورة وأنّ لا احد سيسائله أو يدقق في عمله.
4- البقاء لفترة طويلة في المركز نفسه هو محفّز للكسل، حين يشعر المسؤول انّ بقاءه في المنصب سيطول، فلا يحارب لتحقيق الإنجازات ولا يضع المِهل الزمنية لخططه. اما حين يعرف انّ بقاءه في منصبه هو قصير نسبيًا، سيكون تركيزه على طريقة تقديم أفضل ما لديه للمواطنين، ليعطي انطباعاً جيداً لسيرته المهنية.
5- يصبح الهمّ الأوحد هو الحفاظ على المنصب، مما يمنع المسؤولين من اتخاذ قرارات شجاعة وحازمة، ويفشلون في تبنّي وجهات النظر الصحيحة عند الحاجة إليها بشدة. بل يتوجهون للقرارات الشعبوية لكي يضمنوا الحصول على الرضا، للبقاء في مناصبهم او النجاح في الانتخابات المقبلة، وإن كان ذلك على حساب ناخبيهم.
انطلاقاً من ذلك، علينا تثبيت مبدأ عدم امتهان المراكز النيابية والحكومية والادارية وغيرها، بمعنى انّ خدمة اي شخص في اي مركز يجب ان لا تتخطّى ما بين 4 و8 سنوات بحسب المراكز، ويحتاج هذا الاقتراح الى درس معمّق، فأي مركز في الخدمة العامة هو ليس وظيفة ثابتة، بل يكون لفترة محدودة فقط وينتهي، ونعني بدءاً من الرئاسات الثلاث والمراكز النيابية والحكومية، المدراء العامين، حاكم المصرف المركزي، رؤساء المؤسسات والمجالس والصناديق، الخ … والأهم ان يترافق ذلك مع الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة، لتصبح المحاسبة والمراقبة سلاحاً اضافياً بيد المواطن .