دخلت الأزمة السورية المتفجرة والدموية عامها الخامس على إيقاع صراع داخلي حاد وعجز عربي ولا مبالاة دولية. هذه الأزمة تجاوزت في طبيعتها وحجمها وبشاعتها كل حدود وتصوّر. فهي أولاً وقبل كل شيء مأساة انسانية مروعة مع وقوع هذا الكمّ من الجرائم والخسائر البشرية التي بلغت المئتي ألف قتيل واكثر ومئات الآف الجرحى والمعوقين وملايين النازحين واللاجئين إلى دول الجوار. ويضاف إلى ذلك التدمير الهائل اللاحق بالأبينة والبنى التحتية والاقتصاد والتراث والأثار والأهم هو التدمير المعنوي للانسان السوري الذي يجد نفسه ممزقاً في دولته ووطنه، غريباً في محيطه ومتروكاً من المجتمع الدولي.
والأدهى من ذلك ان هذه الحرب التي لا هوادة فيها ولا ضوابط وروادع وطنية واخلاقية، تبدو من دون أفق ووصلت إلى طريق مسدود. فلا مؤشرات إلى حل سياسي بعدما فشلت محاولات جرت في إطار « جنيف 1 و 2». ولا امكانية لحسم عسكري على يد أي من طرفيّ النزاع، النظام والمعارضة. فلا النظام قادر على هزم المعارضة المسلحة واستعادة سيطرته على كل سوريا، ولا المعارضة قادرة على اسقاط الرئيس بشار الأسد عن طريق القوة والسلاح.
ولأن الأزمة السورية على هذه الدرجة من التعقيد وتشابك المصالح والصراعات الدولية والاقليمية، الدينية والمذهبية والسياسية، إضافة إلى صراع مستجد ومفتوح ضد الارهــاب، فان الموقــف الــدولي إزاءها ليس ثابتاً وجامداً وانما هو موقف متحرك ومتغير تبعاً لتطور الاوضاع والمنحى الذي تأخذه على الأرض. وهذا الموقف الدولي طرأت عليه تحولات مقارنة بما كان عليه في بدايات الأزمة. فلم يعد يحصر المشكلة بنظام بشار الأسد كما كان يقول دائماً، ولم يعد يحصر الحل برحيله وتنحيه عن السلطة بعدما صارت الأزمة متشعبة بابعادها وامتداداتها.
ان النظرة العامة في اطارها وتفاصيلها تبدلت بحيث بات الموقف الدولي أقل تشدداً تجاه النظام واقل ثقة بقدرات المعارضة. وهذا ناتج عن أسباب وعوامل كثيرة لعل أبرزها بروز تنظيم «داعش» الارهابي واخواته وممارساتهم وفظائعهم وابتكاراتهم الاجرامية مما جعلهم خطرآ داهمآ بات متقدماً على كل ما عداه.
ومن هذا المنطلق تحديداً اتى الموقف الأميركي الأخير الذي صدر عن وزير الخارجية جون كيري وأثار عاصفة انتقادات لمجرد أنه ألمح إلى مفاوضات محتملة مع الرئيس الأسد وإلى امكانية ان يكون جزءاً من الحل.
وبغض النظر عن العوامل المحركة للموقف الأميركي ومدى ارتباطه بمفاوضات الاتفاق النووي مع إيران وما يليه من ترتيبات في المنطقة وتحديد الأدوار والاحجام، فان كلام كيري لا يأتي بموقف جديد وانما يؤكد ما كانت عليه السياسة الأميركية تجاه الأزمة السورية من تردد وتخبّط وعدم وجود استراتيجية واضحة المعالم، وهو ما يفسر عدم الرغبة في التدخل لا على المستوى السياسي ولا على المستوى العسكري في سوريا. والأصح ان نقول ان كلام كيري كشف حقيقة السياسية الأميركية منذ اليوم الاول لهذه الحرب .
ليس لواشنطن مصالح مباشرة في سوريا، وهي لا تتعاطى مع الأزمة السورية إلا بمقدار ما تتطلبه مصلحة إسرائيل ومراعاة مخططها للمنطقة. هذا المخطط الذي يهدف إلى اذكاء الصراعات المذهبية والى تقسيم وتفكيك البلاد العربية الى دويلات مذهبية وعرقية . ولما لم تكن انطلاقة هذا المخطط من لبنان موّفقة وافتقدت إلى الزخم والاندفاع عن طريق الفتنة «المسيحية – الاسلامية» في العام 1975 فانه اعتمد طريقاً آخر اكثر «انتاجية» هو طريق الفتنة «الشيعية – السنّية» التي أطلّت برأسها منذ مجيء الأميركيين إلى العراق واحتلاله عسكرياً وتدمير استقراره السياسي والأمني ونسيجه الاجتماعي والثقافي…
الحرب العـراقية دمـرت الجـيش العـراقي وقـسمت الشعب الى قبائل مذهبية متناحرة … والحرب السورية اضعفت الجيش السوري كثيرآ وتستنزفه بقوة، اضافة الى ما فعلـته تلك الحـرب على مستوى البشر والحجر. الولايات المتحدة تفـعل ما تريده اسرائيل وهو تكريس وتثبيت الواقع السوري الجديد كما هو، والابقـاء على تــوازن الرعـب بين النظام والمعارضة بقدر ما يساهم هذا التوازن في تقسيم سوريا وتكريسه امرآ واقعآ على الأرض.
وهنا وفي هذا المجال تحديداً لا بد لي من طرح بعض الاسئلة المشروعة… إذا كانت أميركا تعمل مصلحتها التي هي مصلحة اسرائيل في سوريا والمنطقة. لماذا لا نعمل كلبنانيين مصلحة وطننا وشعبنا ونتعلم ان الخارج كل الخارج لا يهمه سوى مصالحه؟ ولماذا نظل نقع في الخطأ ونبني سياستنا على رهانات وتقديرات خاطئة؟
اطرح هذه الاسئلة لان هناك وبكل اسف قوى وشخصيات سياسية لبنانية تنزلق تكراراً إلى مواقـف متسرعة ومتهورة وليست في محلها. البـعض منها توقع سقوط نظام بشــار الأسـد ورسـم صورة قاتمة لمصيره وبنى على هذا الاساس مواقفه السياسية، وبالغ البعض الآخر في الرهان على دور وتدخل أميركي ودولي في الحـرب الســورية لاسقاط النظام وبنى على هذا الاســاس في تعـاطيه مع حلفاء سورية في لبنان . ليُفاجأ هؤلاء اليوم بان النظام صامد في مواقعه وان الولايات المتحدة لا تريده ان يرحل وانما تريده ان يفاوضها لأنه جزء من المشكلة ومن الحل ايضاً, لكن وبالرغم من كل ذلك فان هؤلاء السياسيون لا يزالون مصرون على عنادهم فهم لا يريدون ان يسمعوا, وان سمعوا لا يريدون ان يفهموا, وان فهموا لا يريدون ان يصدقوا ان اميركا لا هم لها سوى مصالحها وتجربتنا اللبنانية معها منذ العام 1975 اكبر دليل وشاهد على ذلك.
هذا التوجه الأميركي الجديد القديم لا يجب ان يُولّد صدمة لدى بعض السياسيين وان يُقابل باستغراب، لأنه ينسجم تماماً مع سياسة المصالح والبراغماتية الأميركية.
ان السياسة ليست رغبات ولا تمنيات, بل مصالح في الدرجة الاولى. وكما يقولون في بريطانيا: ليس هناك في السياسة وجبة مجانية, فكل شيء بثمنه, فالدول الكبرى تعمل فقط لمصالحها, وليس من اجل هذا النظام او هذه المعارضة او ذاك الشعب او تلك الثورة اوذاك التوجه السياسي .
من هنا فنحن لم نُفاجأ ولم نُصدم بالموقف الاميركي, وعندما كنا ننبّه إلى ذلك من خلال مقالات كتبناها نشرت في الصحف ومن خلال كلامنا خلال اطلالتنا التلفزيونية, كان البعض ينتقدنا, وكان كثيرون يستغربون قراءتنا ومقاربتنا الواقعية ويوغلون في رهانات غير واقعية, ويتوقعون ما يتمنون وما يريدون ان يكون, معتقدين ان اوباما وادارته والغرب لا يغمض لهم جفن الا بعد الاطلاع والاستماع الى تصاريح وتمنيات هؤلاء وتنفيذها بحذافيرها .
في الختام اقول لا داعٍ للصدمة والدهشة أمام ما يصدر عن الإدارة الأميركية، فمن الأجدى والأفضل لكل القوى السياسية في لبنان التمثل بسياستها التي تضع مصلحة الولايات المتحدة الاميركية فوق كل المصالح الاخرى والعمل بما تقتضيه مصلحة وطننا لبنان وشعبه…
ان مصلحة لبنان وباختصار شديد هي في أن يبقى محافظاً على استقراره وأمنه ووحدته وفي ان يعبر هذه المرحلة الخطرة والدقيقة بأقل خسائر ممكنة وبأكبر قدر من التماسك الداخلي…
وأما خريطة الطريق إلى تحقيق هذا الهدف فانها واضحة ومحددة في ثلاث عناوين أساسية هي: الالتفاف حول الجيش والمؤسسات الأمنية والعسكرية ودعم حربها ضد الارهاب، انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت ليعود الانتظام إلى عمل المؤسسات، واستئناف الحوار الوطني الجامع الذي لا غنى عنه ولا بديل له … فهل من يسمع ؟