لم يسبق في تاريخ لبنان أن أطلقت جهة حزبية حملة دعائية، سياسية وشعبية من أجل إيصال ضابط إلى موقع قيادة الجيش كما يفعل “التيار العوني” منذ شهور. دعاية تتكثف مع الوقت وبدأت تظهر في الإعلام والصحافة بفعل مواكبة الحركة السياسية في هذا السياق، بعدما كانت مقتصرة على رفع صور وشعارات تلمحها على الزجاج الخلفي لسيارات وفي بعض الأزقة، وعلى بعض الجدران الواقعية والإفتراضية على السواء. خلاصتها والجامع المشترك بينها أن الضابط الذي يسوّق له “التيار” يتمتع بمواصفات “خارقة” في الميدان والقيادة، وتلميحاً وأحياناً علناً أنه الوحيد المستحق الجدير بالموقع، ولو كان هو في الموقع الذي يستحق أو لو كان الأمر عائداً له، لكانت المؤسسة سجلت بطولات مذهلة، لكن التدخلات السياسية وغير السياسية منعته حتى الآن. وباختصار إنه الحل الوحيد والضمان لإنقاذ لبنان عسكرياً وأمنياً في خضم التحديات الهائلة التي يواجهها، سواء على الحدود أم في الداخل.
لا تنفي أي جهة سياسية في البلاد كفاءة الضابط المذكور. لا يمكن في المقابل إغفال حقيقة أن المؤسسة العسكرية الوطنية زاخرة بالكفاءات، وأن الحملة الدعائية غير المسبوقة رافقها ويرافقها نوع من التجني ومجانبة الصواب لأسباب لا تخفى، حين أن المعنيين في القيادة لا يستطيعون الخوض في هذه المسائل إعلامياً ولا حتى تلميحاً نظراً إلى دقة الموضوع وحساسيته أولاً، وإلى التزامهم مسؤولياتهم حيال الدولة والمؤسسة التي يقودونها وانضباطهم ثانياً، ووعيهم الظروف السياسية المحيطة والتي تدفع طرفاً حزبياً إلى هذا الأسلوب” الثوروي” في مقاربة لا مثيل لها ولا سوابق في كل العهود التي شهدها لبنان.
لا ينسى أحد ممن واكبوا موضوع قادة الجيش، معايشة أو اطلاعاً، أن اختيار من يشغل هذا الموقع قبل “اتفاق الطائف” كان محصوراً في رئيس الجمهورية. فؤاد شهاب واكب عهدي الرئيسين بشارة الخوري وكميل شمعون. عادل شهاب عهد قريبه فؤاد شهاب. إميل بستاني عهد شارل حلو. كان مقدراً لجان نجيم أن يواكب عهد سليمان فرنجية الذي اختار خلفاً له بعد حادثة المروحية في أيطو اسكندر غانم. مع اندلاع الحرب توالى على القيادة حنا سعيد وفكتور خوري وابرهيم طنوس، وميشال عون الذي كان أول ضابط يستدعي ترفيعه إلى القيادة موافقة سورية بفعل اختلال موازين القوى العسكرية بعد “حرب الجبل” ومؤتمرات جنيف ولوزان. خلفه إميل لحود في الظروف المعروفة وحقق لنفسه حلم عون بالانتقال إلى القصر الجمهوري وبقي فيه لولاية ونصف. ثم ميشال سليمان الذي تحرر لبنان من الجيش السوري على عهده ورفض تمديد ولايته، فجان قهوجي الذي أثبت قدرة وصلابة في القيادة العسكرية لكن السياسة أخذت تصوّب عليه منذ مدة انطلاقاً من تجارب دلت على أن قائد الجيش مرشح حكماً لرئاسة الجمهورية – واللافت هنا أن فريقاً سياسياً يعارض هذا المنحى اليوم كان ليؤيده لو كان قائده في اليرزة، ولا يزال كتاب “الجيش هو الحل” وما تلاه في الأذهان – حين أن ثمة قيادات مثل رئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط وغيره لا تتحمس كما ينقل عنها لترسيخ ظاهرة انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية كي لا تصبح عرفاً. إنما هذا موضوع آخر وجنبلاط لا يذهب هنا مذهب “التيار”.
ولعل أكثر ما يجب أن يثير المخاوف في هذا الموضوع الشديد الحساسية أن المؤسسة التي يمدّ فريق سياسي يده إليها وان بالكلمات والشعارت والمواقف هي الوحيدة الباقية وطنية غير مسيّسة في لبنان. يجب أن يتوقف اللبنانيون ملياً ويعترضوا على سياسة تهدد في حال تماديها خلال الأسابيع والأشهر المقبلة بإحلال الفراغ في هذا الموقع القيادي الذي يحمل هو أيضاً رمزية خاصة، وإن كانت المؤسسة الوطنية التي تمتهن الشهادة والتضحية هي فوق الإعتبارات والإختلافات التي تقسم اللبنانيين. ليست مسألة بلا دلالات إطلاقاً أن قائد الجيش في لبنان هو وحده المسيحي بين قادة الجيوش في الشرق الاوسط، بل في المنطقة الممتدة من الصين إلى المغرب على غرار ما هو رئيس جمهورية لبنان.
ما عاد المسيحيون أكثرية في لبنان صحيح، لكن حضورهم ودورهم مطلوبان من شركائهم في الوطن والمنطقة. حرام أن تفعل جهة مسيحية في هذا الموقع ما فعلت برئاسة الجمهورية تطبيقاً لقواعد ونظريات تضعها بنفسها لتلائم مصالحها واستمراريتها. يصير القلق مبررا وأكبر بإدراك أن الإتصالات السياسية التي تجريها الجهة الحزبية المذكورة يستحيل أن توصلها إلى ما تتمنى لاعتبارات هي نفسها تقريباً التي تحول دون انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية.