IMLebanon

سياسة السخرية من التاريخ

 

يحق للبرازيليين أن يغضبوا وللمصريين أن يسألوا عن آثارهم وللأمم التي أودعت البرازيل قطعاً من تراثها أن تحتجّ على الحريق المريع، الذي أتى على 20 مليون قطعة أثرية بلمح البصر. فالكارثة التي حلت على «المتحف الوطني» في ريو دي جانيرو، أكبر متاحف أميركا الجنوبية وأحد أهم متاحف العالم، لم يكن قدراً يصعب رده.

كل شيء يدلل على أن الإهمال فاق الحد هناك، وأن رجال الأطفال وصلوا بسرعة لكنهم لم يجدوا ماء ليطفئوا الجحيم، فاضطروا لأن ينقلوا المياه بالخزانات على دفعات لينهوا المأساة بعد ست ساعات، لم يبق بعدها في أحسن الأحوال، إن صحت الأخبار سوى 10 في المائة من المحتويات التي لا تقدر بثمن.

هذا الحريق الذي يبدو عابراً لكثيرين اليوم سيستذكره التاريخ طويلاً. هناك من يشبهه من حيث قيمته للتراث البشري بحريق «مكتبة الإسكندرية» التي كانت تحوي كتابات سومرية وألواحا طينية. لكن مأساة الإسكندرية وقعت قبل الميلاد، يوم كانت التقنيات الوقائية في علم الغيب. هناك أيضا من يرى أننا فقدنا تراثا يشبه كارثة «مكتبة ساراييفو» التي تحولت إلى رماد سنة 1996 بسبب الحرب والاقتتال. أما في البرازيل فلم يكن سوى الإهمال، وكثير من اللامبالاة. المئات الذين تظاهروا أمام رماد المتحف الكبير في البرازيل بعد الحريق غضباً واحتجاجاً، تحدثوا عن تخفيض نصف الميزانيات المخصصة للعلوم والثقافة وهذا المتحف الذي هو تحت رعاية وزارة التربية.

كان هناك كلام عن توقيف تمويلات الأبحاث التي تعنى بالمتحف، عن أجهزة إنذار الحريق المعطلة، عن أموال بالملايين رصدها البنك البرازيلي كان يفترض أن تستخدم، لكن النار سبقت الإجراءات.

مستفز حقاً أن يعلن وزير الثقافة البرازيلي سيرجيو سا ليتان عن أن إعادة بناء المتحف ستبدأ غدا، مع رصد الأموال اللازمة لهذا الغرض. ثمة ما ضاع وإلى الأبد. هذا هو الدرس الذي يتوجب فهمه. هناك من يغتاظ من الدفاع عن الآثار وكأنها نقيض الدفاع عن الإنسان، وأن البشر أهم من الحجر إذ إن دولة فيها البطالة أولوية كالبرازيل يحق لها أن تمارس شحاً على متاحفها وثقافتها كي تحمي إنسانها. لكن السياحة الثقافية هي أكبر كنز يمكن أن يدر لأمة مداخيل لأجيال طويلة دون أن ينضب، تماماً كما البيئة النظيفة التي باتت موضع بحث العقلاء والنابشين عن بقعة لم يلوثها فساد الأمزجة وبشاعة السلوكيات الجشعة.

النخبة الغاضبة في البرازيل تعتبر احتراق تراثها الأكبر الذي تباهي به، دون أن يتمكن المسؤولون من حمايته، هو انكشاف لوضع كارثي عام في البلاد يتوجب تقويمه من جذوره. البعض يحّمل رئيس البرازيل ميشيل تامر شخصياً مسؤولية التخفيض الكبير لميزانيات المتحف. لم يكن هذا الحريق الشامل ممكناً في بلد يحترم تاريخه ويقدّر كنوزه. هذا يحدث فقط في دول لا ترى في المستقبل استمراراً للماضي، دول لا تريد أن تتصالح مع ذاتها. هذا ليس بعيداً في اللاوعي عما مارسه تنظيم داعش حين انهال على مدن أثرية بأكملها مثل تدمر يريد أن يمحوها. ثمة إلغاء وقح مباشر كما عايشناه بأسى وعجز في سوريا والعراق وآخر يأتي عرضاً بسبب اللامبالاة والإحساس باللاجدوى، والنتيجة واحدة.

سبق للبرازيل أن فقدت ألف قطعة ثمينة في «متحف الفن المعاصر» حين شب حريق عام 1978 كان بينها لوحات لبيكاسو. هذه المرة نحن نتحدث عن ملايين القطع بينها جمجمة لوزيا أو لوسيا لأقدم أثر بشري في الأميركتين، التي عمل العلماء على إعادة تصورها من لحم ودم بالأبعاد الثلاثية. كل قطعة كانت بالنسبة لمكتشفيها عيداً، وبمثابة هدية يقدمونها للإنسانية.

مصر وحدها فقدت من تراثها 700 قطعة بينها مومياوات، و1800 قطعة تعود لسكان البلاد الأصليين، هذا غير الآثار الرومانية واليونانية. وما لا يحكى عنه كثيراً: 350 ألف كتاب بينها مخطوطات قديمة غاية في الأهمية، وملحق بمتحف ريو مركز دراسات. ومن هنا يمكن تخيل الأبحاث التي تبخرت فضلا عن مجموعات الطيور والأزهار التي جمعت عبر السنين بينها ما اندثر. في هذا المكان الذي صار أطلالاً تم فيه استقبال كبار شخصيات العالم مثل ألبرت أينشتاين وماري كوري، وفيه وقعت اتفاقية استقلال البرازيل. مائتا سنة والأجيال المتعاقبة ترعى الصرح وتضيف إليه، وتحتضنه لينمو كمركز للإنسانية. الخسارة حتى لمن لم يكن يعلم بوجود هذا الإرث، موجعة لأسباب عدة، منها أنه في القرن الحادي والعشرين لم يعد مسموحاً أن يترك التراث في آخر سلم أولويات السياسة، ومنها أيضا أننا نملك من التقنيات ما يسمح بحماية الموجودات الثمينة من أن تباد على بكرة أبيها على النحو الذي رأينا. ولم يعد مقبولاً أن تنهض الدول الغنية كما حصل هذه المرة، بعد حصول الكوارث وتقدم مساعداتها. مليونا يورو التي خصصها وزير الثقافة البرازيلي لما سماه إعادة بناء المتحف، كانت كافية لو رصدت قبل أشهر، لحماية كل متاحف ريو دي جانيرو، إن لم يكن كل البرازيل بأنظمة متطورة. الغضب ليس فقط لأننا فقدنا كنزاً لن نراه بعد اليوم، لا في أميركا الجنوبية ولا غيرها.

ولكن لأن ما حصل في البرازيل معرض للتكرار وبالمرارة نفسها في ما لا يحصى من الدول التي أصبح التاريخ آخر اهتمامات حكوماتها، بعد أن تحولت السياسة إلى فن إغراء المقترعين بالبهرج السريع واللماع، لا العمل على الحقيقي الذي يبقى ويدوم لأجيال.