يمرّ كازينو لبنان في واحدة من أصعب مراحله منذ تأسيسه، بحسب عاملين فيه. هو يعاني من شحّ مالي يقابله تسييس لملف تثبيت 614 موظفاً في ملاك الكازينو الذي بدأ يتخذ منحىً طائفياً. المدير حميد كريدي يحاول اللعب على التناقضات حتى لا ينهار الكازينو. الفراغ الرئاسي منع عنه الغطاء السياسي. الطابة وضعها كريدي في ملعب شركة «إنترا»
كانت مفخرة النائب والوزير الراحل الياس الخازن «امتلاكه» طاولة لألعاب قمار في كازينو لبنان منذ أيام «المكتب الثاني» الذي كان صاحب نفوذ في طول البلاد وعرضها. كانت للمكتب، أيضاً، حصة مالية محفوظة من عائدات الكازينو. «ملكية» الخازن للطاولة تعود إلى عهد الرئيس سليمان فرنجية (سبعينيات القرن الماضي) عندما أراد الأخير تحجيم دور الاستخبارات في الحياة العامة، فلجأ المكتب الثاني إلى الاحتيال، وبات لكل طاولة مندوب «موثوق» مباشر يقبض الأموال.
ظروف الحرب الأهلية أجبرت الكازينو على إقفال أبوابه سنوات عدة، حتى عام 1996. عامذاك، تضيف الرواية الكسروانية المعروفة، قصد «الشيخ الياس» الرئيس الراحل الياس الهراوي، مطالباً بطاولة في الكازينو، ومبلغ 120 ألف دولار سنوياً، على أساس أن «هذه الطاولة لي». كان الحلّ بتوظيف أحد أبنائه وأحد أصهرته في الكازينو، براتب مرتفع لكل منهما، من دون أن يداوما بالضرورة في مكان «عملهما». الخازن لم يكن استثناءً. كل الكتل السياسية والزعامات المحلية، من كسروان وخارج القضاء، تعاملت مع كازينو لبنان وكأنه «نبع لا ينضب من المال والوظائف» وأن من حقّها «نهبه». استخدمت نفوذها لفرض توظيف «جماعتها» والاستفادة من أموال الكازينو. السيناريو نفسه يحصل اليوم في المعاملتين (المنطقة التي يقع فيها)، مزايدات سياسية وطائفية حوّلت موضوع تثبيت موظفين في ملاك الكازينو إلى أزمة سياسية تحمل أبعاداً مذهبية. الخلاف تفاقم تقريباً منذ ثلاثة أشهر، بعد أن أصبح المدير حميد كريدي بلا مظلة سياسية، لا بسبب انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان الذي أتى بكريدي من سويسرا إلى كازينو لبنان، بل لأن سليمان حاول في آخر أيامه في بعبدا تعيين «صديق العهد»، رئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مارتينوس، بدلاً من كريدي. أراد سليمان ضمان استمرار نفوذه في الكازينو، ليضمن بذلك مورد توظيف وقوة لصهره الكسرواني الطامح سياسياً وسام بارودي. اصطدمت رغبة الرئيس السابق باعتراض واسع، خاصة أنه نشأ عرف مع إقامة هذا «المعلم السياحي» يقضي بأن يُشرف عليه رئيس الجمهورية، وبأن يُعيّن كل «عهد جديد» رئيساً جديداً لمجلس إدارة الكازينو.
من يملك القرار السياسي حاليّاً؟ يُجمع السياسيون الذين التقتهم «الأخبار»، وهم ينتمون إلى كتل سياسية متخاصمة، على غياب أي قرار سياسي أحادي يحكم الكازينو حالياً: «ثمة ميزان قوى متناقض». من نقاط ارتكاز كريدي صداقته بالرئيس تمام سلام و«رضى» حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عنه. ولكن يبقى أن الحلقة الأقوى التي تمسك بالقرار الإداري والسياسي هي شركة «إنترا»، برئاسة محمد شعيب، المحسوب على الرئيس نبيه بري. تملك «إنترا» 53.8 في المئة من أسهم الشركة التي تشغّل الكازينو، فيما يملك مصرف لبنان 35 في المئة من أسهم إنترا. أما رئيس مجلس الإدارة، فهو عملياً لا يملك شيئاً، أكثر من ذلك «هناك قرابة 1500 موظف ومتعاقد لا يمون على واحد منهم». الأسهم التي تُعطى له فور تسلمه هي فقط من أجل أن يتمكن من حضور اجتماعات مجلس الإدارة والجمعية العمومية للمالكين، ولكنه يتنازل عن الأسهم فور مغادرته منصبه. هو يُشبه «رئيس جمهورية لبنان بعد اتفاق الطائف. ينحصر عمله بإدارة التوازنات ومصالح القوى الحاكمة». اللحظة التي يختلف فيها السياسيون يتعطل عمل الكازينو. ولكن كريدي يستفيد حالياً من التفاف التيار الوطني الحر، القوات اللبنانية، المردة والكتائب حوله «في مواجهة إنترا». يقول مصدر في الإدارة، على سبيل السخرية، إن النفوذ السياسي في الكازينو «يبدأ من عند حزب الله وينتهي في بكركي»، قبل ان يصف النائب ميشال عون بـ«الديك الحقيقي حالياً الذي يريد أن يقطف نتائج الأزمة حالياً». أما الأقل إزعاجاً فهما النائب سليمان فرنجية وميشال رينيه معوض اللذان يحتفظ كل منهما بحصة ثابتة من التوظيفات. التوظيفات بمعظمها كانت نتيجة «توصيات» سياسية، لذلك «التعرض لأي موظف ـ ولو في شأن عمليّ بحت ـ يُعدّ تعرضاً للفريق السياسي الذي يُمثله. تقوم القيامة عندها». من هنا بدأت خلافات كريدي مع نواب كسروان، وبعدهم مع صهر سليمان وسام بارودي الذي أجهض التمديد النيابي حركته شبه الخدماتية. هذا الخلاف انعكس «بروداً» في العلاقة بين كريدي و«فخامته». من هنا، يؤكد المصدر أن «مشكلة تثبيت الموظفين سياسية بامتياز وليست اقتصادية»، لكنها معقدة. فـ«الفريق المسيحي» في الكازينو يتهم الرئيس نبيه بري بـ»غزو» منطقة كسروان، فيرد كريدي قائلاً: «برّي هو من منع إقرار قانون تفريع الكازينو، الذي كان سيضر بالمعلم الكسرواني».
يكشف المصدر الإداري أن كريدي كان ينوي «التمرد» ويمتنع عن تسديد المستحقات إلى المالية، «ولكن لم يدعمه أحد من مجلس الإدارة». يتهامس الموظفون في الكازينو اتهامات بأن «الدولة تسرقنا». قبل اتهام الدولة يجب الحديث عن الفساد الذي استشرى في المرفق منذ تأسيسه. التركة التي تسلّمها كريدي هي أن الموظفين يقبضون ساعات عمل إضافية تفوق قيمتها خمسة ملايين دولار في السنة وعلاوات بنسبة 130 في المئة لموظفي صالة الألعاب و70 في المئة لبقية الموظفين. ومنافذ هدر الأموال مثل «استئجار موقف للسيارات بمبلغ مليون دولار في السنة من دون استعماله». إضافة إلى موظفين يقبضون رواتبهم وهم لا يحضرون: زوجات نواب حاليين وإعلاميون في مؤسسات قريبة جغرافياً من المعاملتين، ومنهم من كان يملك صفة إدارية أو استشارية «هدية» من عهد الوصاية السورية كبعض النواب السابقين. تحولت الإضافات على الرواتب إلى عرف لم يتمكن كريدي من تخطيه، لذلك رفع الصوت طالباً النجدة. ثمة اليوم 850 موظفاً، و614 متعاقداً مع «شركة ATDC» (المعروفة بشركة أبيلا) المشغّلة لآلات القمار. المنتمون إلى الفئة الأخيرة يطالبون بتثبيتهم في ملاك الكازينو، فيما تقدّر الإدارة العدد الأقصى من الموظفين الذين تحتاجهم بأقل من 700: «الأعباء كبيرة. يدفع الكازينو في اليوم الواحد 217 ألف دولار بدل أجور الموظفين». ورغم ذلك، تدرك الإدارة أن «متعاقدي أبيلا» هم الذين يشغّلون الكازينو، ومن دونهم، لن يدخله قرش واحد. تواصل «المدير» مع سلام، وزير العمل سجعان قزي ووزير المال علي حسن خليل، مصارحاً إياهم: «وحدي لا أقدر أن أتحمل هذا الأمر». اقترح تعديل عقد الامتياز الذي يفرض ابتداءً من العام المقبل دفع نحو 60 في المئة من عائدات الكازينو إلى المالية العامة. استناداً إلى المصدر «أوضح لهم كريدي أنه إذا أكملنا بناءً على هذا العقد لن نتمكن من دفع مستحقات موظفين جدد». الحل الثاني الذي اقترحه «قبول التثبيت مقابل خفض الضرائب». وبحسب مصادر مطلعة على الملف، فإن وزير المال «لا يريد أن يخفض إيرادات المالية العامة التي تصله من الكازينو، وفي الوقت عينه، لا يريد أن ينفجر العمال وداعموهم في وجه شعيب المحسوب على بري، ولا هو يريد تحميل الكازينو أعباءً كبيرة تؤدي إلى انهياره». جواب حسن خليل كان واضحاً، «من غير الممكن حسم عشرات ملايين الدولارات من الاموال التي تُجبى من ماكينات الألعاب في الكازينو. وبالنسبة لتوظيف متعاقدين تلقوا وعداً بتثبيتهم، فلا ضير من تحمّل الكازينو بعض الاموال الإضافية مقابل ذلك».
أمام هذا الواقع، رمى كريدي الطابة في ملعب مجلس الإدارة عبر الدعوة إلى جمعية عمومية، «فليتحملوا هم مسؤولية تثبيت هذا العدد». ممثل شركة إنترا تغيّب عن الجمعية العمومية التي كانت مقررة في السابع من الجاري، «حاول العونيون الضغط من أجل عقدها بمن حضر متخطين شعيب، ولكن كريدي لم يقبل». يبرر المصدر الأمر بأنه «لا خلاف مع شعيب، الموضوع أكبر منا ومنه».
خطورة الموضوع أن القصة بدأت تأخذ منحى طائفياً. فالموظفون المسيحيون، «يبثون شائعة بأن شعيب يشترط توظيف 50 شخصاً ينتمون إلى حركة أمل من أجل حل الموضوع»، علماً بأن الإدارة لم تتلقّ أي طلب من ممثل إنترا بهذا الخصوص. ويحمّل طالبو التثبيت مسؤولية تأجيل بتّ قضيتهم إلى بري، ويربطها بعضهم بملف مياومي الكهرباء. يقولون إن بري يريد «رد الصاع صاعين للجنرال عون». مصادر رئيس المجلس النيابي تنفي ذلك قطعاً، مؤكدة أن شعيب لم يتحدّث مع وزير المال، لا تلميحاً ولا تصريحاً بأمر الكازينو. وتؤكد مصادر الوزير علي حسن خليل أنه «لم يسمع حتى اليوم (أمس) بوجود أزمة في الكازينو، ولم يطرحها معه أحد من السياسيين خلال الأيام الماضية، ولم يناقش هذا الملف إلا قبل أكثر من 3 أشهر عندما زاره كريدي مع وزير العمل. وحينذاك، عرض كريدي على وزير المال دفع مبلغ سنوي مقطوع مقابل تشغيل آلات القمار، لتنخفض ما تجبيه وزارة المال لصالح الخزينة من هذه الآلات من 50 مليون دولار سنوياً إلى ما لا يزيد عن 500 ألف دولار سنوياً. وبرّر كريدي عرضه بالمنافسة التي يتعرّض لها الكازينو من الملاهي التي لا تدفع سوى مليون ليرة مقابل تشغيل كل آلة». وتؤكد المصادر أن خليل «رفض هذا الاقتراح، قائلاً لكريدي: لا داعي للتعديل، ومهما تعرّضتم للمنافسة وانخفضت العائدات، فإنها ستبقى أفضل للخزينة العامة من إعفاء الكازينو من مبلغ يصل إلى أكثر من 49 مليون دولار سنوياً».
وفي ظل الأرقام الهائلة التي يُحكى عنها وارتفاع لهجة التحريض المذهبي داخل أسوار الكازينو، ينتقد أحد متابعي الملف عن كثب «الأطراف المسيحية التي تعيش حالة إنكار للواقع. يهددون ويتوعدون باعتبار أن هذه المنطقة منطقتهم ويريدون الوظائف لهم، ولكن في النهاية لا شيء بيدهم. رغم ذلك، الضغط الذي تمارسه أحزاب هذا الفريق يفيد: لا يجب أن يتنازلوا حتى لا ينهار الكازينو. فلتتحمل إنترا والجمعية العمومية المسؤولية».
كازينوهات على أبواب الكازينو
المرحلة الحالية تكاد تكون الأصعب في تاريخ كازينو لبنان، على ذمة إدارته التي تتحدّث مصادرها عن أن الهمّ بات محصوراً في العمل على عدم انهياره. الحرب في سوريا والعراق والتوتر في الإقليم والأزمة الاقتصادية في لبنان أرخت بظلالها على المرفق الذي «انخفض عدد رواده بنحو ملحوظ. الآن يُمكن الحديث عن ثلاثة أو أربعة أشخاص لهم وزنهم المادي يُثابرون على القدوم واللعب»، استناداً إلى مصدر داخلي في الكازينو. أصبح العدد الأكبر منهم يتوجه الى كازينوات قبرص التركية التي تقدم العديد من التسهيلات والإغراءات للرواد، لكونها مُعفاة من الضرائب. تراجع إيرادات الكازينو خلق مشكلة أخرى مع وزارة المالية، فهو لم يعد بإمكانه تأمين الضرائب المُستحقة عليه كل عام. بلغت نسبة الضرائب التي دفعها الكازينو منذ عام 1996 ملياراً و350 مليون دولار، تُقسم إلى 40 في المئة على الأرباح الإجمالية، و15 في المئة على صافي الأرباح. اعتراض الإدارة أنها تدفع مقابل عدم تطبيق بنود الامتياز التي نصت على حصرية ألعاب القمار، «مقابل 600 ماكينة في الكازينو هناك 6000 في الجمهورية. أقربها على بعد 200 متر من مدخله».