دخلت السيدة الخمسينية الى ملحمة الحي وبادرت الجزار الذي كان منهمكا بتقطيع اللحوم بالسؤال: ألم يأتِ أبو فاعور الى ملحمتك بعد؟ ثم التفتت إليّ وقالت وهي تهز رأسها يمنة وسيرة: «شاطر وليد جنبلاط يا أستاذ. لقد شغل البلد باللحمة المفرومة والكفتة وأفخاذ الدجاج، وصرف أذهان الناس عن السياسة والأمن والفراغ الرئاسي والتمديد للنواب والهموم الأخرى».
في زمان آخر ومكان آخر كان أحد المواطنين يردد بشيء من الخبث: «أدفع نصف عمري لأعرف فقط ماذا يريد وليد جنبلاط من هذه الحملة على الفساد الغذائي». وأردف آخر: «أنا أدفع عمري كله إن لم يكن نبيه بري شريكا في هذه الحملة، لأن جنبلاط لا يفك حرفا في السياسة الا بمباركة أستاذ عين التينة».
ليس غريبا لماذا لم يصدق العامة والخاصة حتى الآن أن الحملة التي يقودها وزير الصحة وائل ابو فاعور على الفساد الغذائي، هي حملة بريئة مائة بالمائة، على الرغم من تأييد الناس لها بنسبة عالية جداً. ربما لأن الثقة بالسياسة وأهلها في ضمور مستمر، نتيجة الواقع الذي يعيشه لبنان منذ سنوات طويلة، حتى باتت نظرية المؤامرة تتغلب على أي نظرية أخرى تحمل ما تحمل من النيات الحسنة.
في الشارع أسئلة كثيرة ومريرة حول التلوث الغذائي: لماذا الآن وليس من قبل؟ وهل أن هذا التلوث جديد ومستجد على البلد، أم أنه مزمن ومن أمد طويل جدا؟ وماذا كان يأكل المواطنون في لبنان قبل تطويب وائل أبو فاعور على لواء الصحة؟ وهل صحيح أن كل ما نأكله يسمم أجسادنا حتى باتت الأمراض الخطيرة تفتك باللبنانيين بصورة مذهلة؟
في كل الاحوال، ما من عاقل يستطيع ان يقف ضد هذه الحملة. وأياً تكن أهدافها فإن الوزير أبو فاعور يستحق الثناء والتقدير، وأكثر منه زعيمه وليد جنبلاط والذين معه. وعندما تكون السياسة في خدمة الناس فنِعم الساسة والسياسة. وعندما لا تكون السياسة من أجل الناس فبِئس الساسة والسياسة.
وباختصار شديد، تكشف هذه الحملة ونتائجها المريعة عطباً مزمنا في النظام اللبناني بكل وجوهه السياسية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية وغيرها. فعلى مدى اسبوع كامل يقف وزير الصحة اللبناني شارحا للمواطنين بكل صراحة وجرأة أسباب أنواع التلوث الذي يضرب مصادر غذائهم وتأهيلهم الجسدي، في المطاعم والمحال والمؤسسات الكبرى والمسالخ وشركات المياه ومراكز التجميل والتطبيب. «لا توجد نظافة. لا توجد رخص. لا توجد شهادات. لا يوجد طبيب. لا توجد برادات… لا يوجد.. لا يوجد .. الى آخر المنظومة.
كان يمكن للوزير أبو فاعور أن يختصر هذه «القصيدة» الطويلة بكلمتين. ولكن ربما سها عن باله، أو أنه خجل أن يقول: لا توجد.. دولة!
في المناسبة، اليوم تمر الذكرى الواحدة والسبعون لاستقلال لبنان. مؤسف أن يكون التلوث الغذائي عنوان هذه الذكرى. ومؤسف أكثر بعد واحد وسبعين عاما ألا يكون عندنا دولة ولا استقلال.