زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو لم تُطمئن اللبنانيين، بل زادت منسوب الحذر والقلق في مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية على السواء، لأن الزيارة وما دار فيها، لم تُشكّل اختراقاً للحصار الراهن على البلد، بل حملت تشديداً وجدّية مؤكدة للنظرة الأميركية للوضع اللبناني، التي تضعه في خانة المحور الإيراني، بسبب العلاقة العضوية المتجذرة بين «حزب الله» وطهران، عبر الحرس الثوري الإيراني.
كلام المسؤولين اللبنانيين عن وضعية «الحزب» على الخريطة السياسية اللبنانية، ومدى تمثيله لبيئته، حسب النظام الطائفي اللبناني، لم يُقنع الزائر الأميركي وحسب، بل بقي يتكلم ويطرح وجهة نظره حول التصنيف الأميركي للحزب واعتباره «منظمة إرهابية»، وكأنه لم يسمع شيئاً من محدّثيه اللبنانيين.
يمكن تلخيص نتائج زيارة رئيس الديبلوماسية الأميركية «الطويلة» نسبياً إلى بيروت، بنقطتين أساسيتين:
إما فك ارتباط «الحزب» بالسياسات الإيرانية «التي تزعزع استقرار دول المنطقة، وتثير الاضطرابات في أكثر من دولة»، وعندها يتحوّل الحزب إلى مؤسسة سياسية بلا جناح عسكري، تهتم بتقديم الخدمات لبيئتها ومؤيديها.
وإما استمرار العقوبات المشددة على «الحزب»، وبالتالي على ما يصيب لبنان منها، وذلك كجزء من حرب العقوبات التي تخوضها واشنطن حالياً ضد طهران، حيث لا تبدو حتى الآن أية مؤشرات لإمكانية حصول حوار أو تفاوض بين الطرفين، للتوصل إلى صيغة لتخفيف العقوبات، على النحو الذي حصل أيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
وبين هاتين النقطتين «الأمر يتطلب شجاعة من الشعب اللبناني للوقوف بوجه إجرام حزب الله»، على حد قول بومبيو في بيانه المكتوب في وزارة الخارجية، وعلى مسمع الوزير جبران باسيل، الذي ردّ بما رآه مناسباً.
محادثات المسؤولين اللبنانيين مع الوزير الأميركي أكدت عدم قدرة لبنان الرسمي والشعبي على التصدّي لسياسات إيران في المنطقة، ولا لدور «الحزب» في لبنان والإقليم، والذي خرج عن سياسة النأي بالنفس التي توافق عليها اللبنانيون، مما يعني أن لا تهاون في العقوبات ضد «الحزب»، والأيام المقبلة ستحمل الكثير من التحدّيات والصعوبات، قد تفوق قدرة الوضع اللبناني الهش، سياسياً واقتصادياً على تحمله، وذلك قياساً على تجارب سابقة في التعامل مع الإدارات الأميركية، لا سيما مع وجود الحزب الجمهوري في السلطة.
في أواسط السبعينيات، وإثر انتهاء حرب تشرين عام ١٩٧٣، قام وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر بجولات مكوكية بين عواصم القرار المعنية بوقف النار في المنطقة، وقرّر أن يزور لبنان في إحدى الجولات، حيث كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تُقيم في بيروت. ولكن مظاهرات الفلسطينيين ومؤيديهم اللبنانيين، حالت دون هبوط طائرة الوزير الأميركي في بيروت، ولقاء الرئيس سليمان فرنجية في قصر بعبدا، فكان أن تم اختيار ثكنة أبلح في البقاع مكاناً للاجتماع مع المبعوث الأميركي، الأمر الذي أظهر عجز السلطة اللبنانية عن السيطرة على الوضع الداخلي، وكبح جماح الفصائل الفلسطينية ومؤيديها. فماذا كانت النتيجة؟ لم تمضِ أكثر من بضعة أشهر حتى اندلعت شرارة الحرب اللبنانية التي استمرت خمس عشرة سنة!
في أواخر الثمانينيات، وفي ظل الفراغ في رئاسة الجمهورية، وتولي العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية بتكليف من الرئيس المنتهية ولايته أمين الجميل، زار الموفد الأميركي ريتشارد مورفي دمشق واتفق مع الرئيس حافظ الأسد على ترشيح النائب مخايل الضاهر لرئاسة الجمهورية. وجاء مورفي إلى لبنان ليبلغ الأطراف السياسية باسم رئيس الجمهورية العتيد، ولكن طرحه قوبل برفض صارخ من بكركي والأحزاب المسيحية، كما من رئيس الحكومة العسكرية، الذي كان مرشحاً طبيعياً للرئاسة الأولى. وكان ردّ مورفي الشهير على الرفض المسيحي: إما مخايل الضاهر رئيساً أو الفوضى! وما هي إلا أيام حتى اندلعت «حرب التحرير» ضد الجيش السوري، واتخذ العماد عون من القصر الجمهوري مقراً له، وأطلق شعاره المعروف: «يا شعب لبنان العظيم». وما أن هدأت جذوة حرب التحرير، حتى اشتعلت «حرب الإلغاء» بين الجيش المتواجد في المناطق المسيحية بقيادة العماد عون و«القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع. وكان أن أصاب المناطق المسيحية في الحربين المذكورتين مِن الخراب والدمار والتهجير ما يفوق عشرات المرات ما حصل فيها إبان سنوات الحرب مع الفلسطينيين وحلفائهم في «الحركة الوطنية»!
والتساؤلات التي تشغل عقول اللبنانيين الذين عاشوا تلك الأيام السوداء تبدأ: هل يُعيد التاريخ نفسه، ويدفع لبنان وأهله ثمن عجز السلطة عن تحييد البلد عن محاور الصراعات والحروب المشتعلة؟ وما قدرة البلد على الصمود اقتصادياً ومالياً، في حال اشتدّت وتيرة العقوبات الأميركية، على اعتبار أن أي انفجار أمني مستبعد في هذه المرحلة، نظراً لاختلاف المعطيات مع أوضاع السبعينيات والثمانينيات؟ وكيف ستبرّر الدولة اللبنانية عدم قدرة «حزب الله» على فك ارتباطه بالمحور الإيراني، وهذا الغياب الكامل عن الحديث عن الاستراتيجية الدفاعية، التي تُشكّل مدخلاً للبحث في صيغة وضع السلاح تحت إمرة الشرعية اللبنانية؟
زيارة بومبيو أثارت عاصفة سياسية، قد لا تبقى تداعياتها بعيدة عن زلزلة الوضع اللبناني المتهالك أصلاً، والمُستَهلَك بالخلافات التي لا تنتهي بين أهل الحكم!