قد يعتقد البعض أنّ لبنان سيكون بمنأى عن الخطة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط أو عمّا يُعرف بـ «صفقة القرن» التي تُحاول الولايات المتحدة الأميركية تسويقها على أنّها تتعلّق بالتفاوض النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ضمن خطّة مفصّلة لوضع الخلافات السابقة جانباً والتطلّع الى مستقبل مزدهر ومشرق، من وجهة النظر الأميركية، على أنّ المبادىء الأساسية لها هي الحرية والإحترام والأمن. فيما يجد الجانب الفلسطيني أنّ أي طروحات تتعلّق بالمسيرة السياسية يجب أن تكون على أساس الشرعية الدولية، ومبدأ حلّ الدولتين لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية. كما يعتبر بأنّ حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم مكرّس في القانون الدولي، والعدالة الطبيعية.
و«صفقة القرن» التي استلزم وضعها نحو سنتين، يبقى أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب سنتين أخريتين من عهده الرئاسي لتنفيذها، لهذا يصبّ الجهود على تأييد دعم المجتمع الدولي لها، قبل موافقة الدول الإقليمية المعنية بها على بنودها، سيما وأنّه يريد فرضها بشكل أو بآخر عليها. ويقول بعض العارفين بأنّ عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط منذ عقود بدأ بالصراع العربي- الإسرائيلي ومن ثمّ بتهجير الفلسطينيين واستقبالهم في دول الجوار ولا سيما في لبنان والأردن وسوريا ومصر، على أنّهم «لاجئون مؤقّتون» الى حين تحقيق حقّ العودة الذي نصّ عليه القرار الدولي 194. إلاّ أنّ هذه العودة لم تتمّ حتى الآن، بسبب الرفض الإسرائيلي لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم وعدم تطبيق القرارات الدولية، ولأنّ المجتمع الدولي لم يتحرّك للضغط على الجانب الإسرائيلي لتنفيذ القرارات ذات الصلة.
وتجد أوساط ديبلوماسية عليمة بأنّ لبنان هو من أحد دول المنطقة المعنية بـ «صفقة القرن»، خصوصاً وأنّها تنصّ في أحد بنودها لإنهاء النزاع مع الجانب الفلسطيني، على بقاء اللاجئين الفلسطينيين حيث هم، أي في الدول المضيفة لهم، وبمعنى آخر «توطينهم» فيها. هذا الأمر الذي يرفضه لبنان انطلاقاً من مقدمة الدستور التي تؤكّد على اللاءات الثلاثة «لا للتجزئة، لا للتقسيم، ولا للتوطين»، ثمّ لأنّه ليس بلد لجوء وليس موقّعاً على «اتفاقية فيينا» الخاصة باللجوء.
غير أنّ بقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ العام 1948 وحتى الآن، يُعتبر، بحسب بعض المراقبين، نوعاً من التوطين، وإن كانوا يعيشون في مخيّمات خاصّة، إلاّ أنّ هذه الأخيرة تقع على الأراضي اللبنانية وتأخذ مساحات شاسعة منها، كما أنّ وجودهم يستلزم كلّ الإحتياجات التي يتطلّبها أي مواطن ليستمرّ في العيش. وهذا يعني بأنّه لا ينقصهم للإندماج في المجتمع اللبناني سوى الخروج من هذه المخيمات والسكن بين اللبنانيين، على غرار ما فعل فلسطينيون عدّة لدى وصولهم الى لبنان، والإنخراط في سوق العمل الذي لا يزال يمنعهم حتى الآن من القيام بمهن عدّة.
إلاّ أنّ الأوساط نفسها طمأنت الى أنّ بقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لسنين طويلة بعد، لا يجعلهم مواطنين لبنانيين، ولا يُمكّنهم من الإندماج في المجتمع اللبناني ما داموا يعيشون في المخيمات الخاصّة بهم أولاً، وبصفة «لاجئين بصورة مؤقّتة» ثانياً، وما دام لبنان بالتالي يتمسّك بمبدأ «رفض التوطين»، وبحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. لكنّ الولايات المتحدة الأميركية تسعى من خلال محاولاتها المتكرّرة لجسّ نبض لبنان فيما يتعلّق بإبقاء اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه، كحلّ نهائي لنزع حقّ العودة منهم، على غرار ما تفعل أيضاً مع سائر الدول العربية المضيفة لهم في المنطقة.
وكشفت بأنّ وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو الذي يزور لبنان خلال الأسبوع المقبل في سياق جولة ثانية على المنطقة هذا العام تشمل هذه المرة الكويت وإسرائيل (الأراضي الفلسطينية المحتلّة) أيضاً، والتي ستلي على الأرجح مؤتمر «بروكسل 3» بشأن «مستقبل سوريا والمنطقة» الذي يُعقد في العاصمة البلجيكية بين 12 و14 آذار الجاري، سيبحث مع المسؤولين اللبنانيين، من جملة المواضيع، بند «صفقة القرن» الذي يتعلّق بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين، وخطّة ترامب لإبقائهم حيث هم، أي في لبنان والأردن وسوريا بهدف إحلال السلام في المنطقة، كبديل عن عودتهم الى ديارهم. ولتحقيق ذلك تقدّم هذه الصفقة المغريات المالية والوعود للدول المضيفة وليس للشعب الفلسطيني نفسه، على ما لفتت، وقد مهّد الرئيس الأميركي لهذا الأمر من خلال إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل أولاً، ثمّ قطعه التمويل المالي الأميركي عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ويتجه الى الإعلان عن خطوته الجديدة، أي الخطّة المفصّلة لـ «صفقة القرن»، غير أنّ ذلك لن يحصل قبل الإنتخابات الإسرائيلية المقرّرة من 9 نيسان المقبل.
وبما أنّ «صفقة القرن» تنصّ على إقامة دولة فلسطين «منزوعة السلاح» (الأمر الذي يرفضه الجانب الفلسطيني جملة وتفصيلاً)، فإنّ سلاح الفصائل الفلسطينية الموجود داخل المخيمات، سيكون موضع نقاش أيضاً. هذا السلاح غير الشرعي الذي يودّ لبنان التخلّص منه لما يُشكّله من خطر على الداخل اللبناني. رغم ذلك، إنّ لبنان، على ما أكّدت الأوساط، يصرّ على موقفه من رفض التوطين، ولن يُساوم في هذا الملف، ولا يُمكنه بالتالي الموافقة على أي اتفاق تطرحه الولايات المتحدة الأميركية رغم كلّ التقديمات والتسهيلات الإقتصادية المالية الكبيرة التي تنوي منحها للدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين مقابل الحصول على موافقتها على «صفقة القرن» وتوطين اللاجئين فيها. وأفادت المعلومات بأنّ فريق عمل ترامب يُخطّط لإنهاء دور الأونروا، مع الإبقاء على الأموال والمساعدات الدولية التي كانت تحصل عليها، على أن تُصبح وجهتها الجديدة الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين بشكل مباشر. وسيكون على هذه الأخيرة الإستفادة من هذه الأموال، وأن تقوم بنفسها على معالجة مشكلة اللاجئين على طريقتها، إمّا عن طريق الإستفادة من طاقاتهم الإنتاجية أو عن طريق تجنيسهم أو توطينهم..
وفي رأيها، إنّه بدلاً من أن تعمل «صفقة القرن» هذه على اندماج إسرائيل بشكل ملائم في المنطقة، على ما تُعلن، تسعى لدمج أو لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المضيفة لهم، سيما وأنّ الخطة لا تتضمّن أي بند عن «عودة اللاجئين»، علماً أنّ إسرائيل تُعتبر «عدوّة» لغالبية الدول العربية في المنطقة، رغم محاولات البعض التطبيع معها.
ولكن حتى الآن، فإنّ الموفدين الأميركيين لم ينجحوا في انتزاع موافقة السلطة الفلسطينية على الحلول التي تطرحها «صفقة القرن»، ولا في تأمين التغطية العربية والدولية المطلوبة لها، ولا في قبول الدول المعنية ولا سيما لبنان والأردن ومصر بخطّتها لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها. ولعلّ هذا ما يُطمئن الى أنّ هذه الصفقة لن تمرّ بالسهولة التي يعتقدها ترامب والجانب الإسرائيلي الحليف له.