يطغى صوت الأثرياء في الشوارع والأسواق. لوهلة يُظن بأن لا أزمة في لبنان. حركة المطاعم والمولات وأماكن السهر وسواها توحي بذلك. لكن الواقع، أن الفقراء يقارعون فقرهم بصمت. لم يصبحوا فقراء وفق التعريف التقليدي المبني على احتساب مداخيلهم وثروتهم، بل بالخسائر اللاحقة بمستقبلهم. المستشار في قضايا الفقر والتنمية أديب نعمة يعتقد بأن لبنان دخل في مسار يأخذه نحو عشرات السنوات من الفقر الهيكلي الشديد والعميق. الفقر سيصبح مستداماً!
هناك كلام رائج في لبنان عن مبالغة في مؤشرات الفقر بالمعدلات الصادرة عن المنظمات الدولية مثل «إسكوا» التي تحدثت عن نسبة 82%. يستند مروّجو هذا الكلام إلى مشاهداتهم المباشرة في زحمة الطرقات والمطاعم وأماكن السهر والسوبرماركت وسواها من المشاهد التي لا يستنتج منها إلا نشاط في الحركة الاستهلاكية للأسر، مقابل غياب لمشاهد معبّرة عن الفقر. يردّد هؤلاء بأن فقراً بمعدل مرتفع كهذا لا بدّ أن يكون ظاهراً للعيان.
«صوت الفقراء لا يخرج إلا في المناسبات» وفق تعبير الأستاذ الجامعي أديب نعمة. هذا الأمر لا يتعلق بسلوك الإعلام الذي يتغافل عن فئات محدّدة في المجتمع فحسب، بل أيضاً مرتبط بحقيقة أن القدرات الشرائية لدى القلّة ما زالت مرتفعة، وهي الظاهرة حالياً للعيان فقط. ففي الغالب يُنظَر إلى المدينة لقياس الفقر. المدينة في هذه الحالة هي بيروت وبعض مناطق جبل لبنان. لكن هذه النظرة الجزئية لا تعكس ما يحصل فعلياً لأنها تغفل الأوضاع في المناطق الأخرى. انفجار التليل في عكار يقدّم مثالاً على زاوية النظر إلى هذه المناطق، إذ لم يعد أحد يسأل عن الانفجار الضخم وعن ضحاياه وعن أوضاع المنطقة التي وقع فيها، ولا عن أوضاع المناطق المشابهة.
تهميش المناطق هو حقيقة تاريخية في لبنان وتزداد وضوحاً في ظل الأزمة الراهنة. «الناس تنظر إلى بيروت وبعض مناطق جبل لبنان كأنها تختزل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية»، يقول نعمة. مثل آخر عن الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ومثلها بقية الضواحي: لا يتم التطرق لهذه الضواحي إلا من زاوية سياسية، أو للتدليل على فلتان أمني أو ما شابه، بينما الواقع أن قسماً كبيراً من هذه المناطق هي مجمّعات للفقر ولأنماط عيش مختلفة جداً عن أنماط العيش في المدينة، «ففي هذه الضواحي واقع مأساوي لا أحد ينظر إليه».
في مقابل ذلك، تظهر المدينة بحلّة «أفضل» نسبياً. ففي بيروت وبعض مناطق جبل لبنان «تعيش الفئات الميسورة أو تلك التي أصبحت ميسورة بفعل الأزمة» يقول أحد الخبراء الاقتصاديين. نسبة هؤلاء تصل إلى 10% من عدد السكان، أي أكثر من 60 ألف شخص ما زالوا يتنعمّون بقدرة شرائية مرتفعة، فضلاً عما تبقى من طبقة وسطى عليا، ممن لديهم مداخيل بالعملة الأجنبية، أو لديهم عقود جماعية تضمن لهم مداخيل مقبولة… هؤلاء هم الذين نراهم في أماكن السهر ويجرّون عربات السوبرماركت المحمّلة بالسلع، ويرتادون المطاعم وأماكن السياحة…
وبحسب إحصاءات «إسكوا»، فإن أغنى 10% في لبنان يملكون 90 مليار دولار، بمعدل ثروة لكل واحد يبلغ 360 ألف دولار. كما أنه بحسب تقرير world inequality database فإن أفقر 50% من السكان في لبنان يملكون 0.1% من الثروة وأغنى 1% يملكون 48.2% من الثروة.
هذا يعني أن الهوّة بين الفقراء والأثرياء كانت قبل الأزمة كبيرة جداً في لبنان، لكنها اتسعت وأصبحت نافرة أكثر وظاهرة للعيان. والمشاهد المتناقضة مع الأزمة دلالة على حجم هذه الهوّة ومدى اتساعها انسجاماً مع سلوك الطبقات الاجتماعية.
لكن لا يمكن اختصار هذه الظاهرة فقط بالحركة الناشطة للطبقات الميسورة مقابل حركة خافتة للطبقات الفقيرة، إذ يعتقد نعمة أن المشكلة تكمن في غياب الأرقام الدقيقة التي تعكس الواقع. فما يصدر عن المنظمات الدولية من أرقام مبنية على استبيانات تتغيّر كل بضعة أيام لا يمكن الركون إليها. «صحيح أنها تقدم مدلولات تقديرية تقريبية لإجمالي حجم الأزمة، إلا أنها لا تعبّر بشكل دقيق أو ناتجة من قياسات موضوعية وملائمة للأزمة».
فالقياس النقدي، أي القياس المرتبط بالقدرة النقدية للاستهلاك، قد يكون متغيّراً بين لحظة وثانية، فيما القياسات التي تعتمد على خطوط الفقر وتعريفاته العلمية «صارت مضلّلة ومضرّة أيضاً لأن هناك خفّة في عملية التقدير التي ينتج منها تعدد في الأرقام والجهات التي تصدرها. يجب أن تقوم إدارة الإحصاء المركزي بقياس هذا الواقع بطريقة صحيحة لتأكيد حجم الأزمة. الفقر أكبر بكثير مما يظهر». لذا، يفضل نعمة عدم استعمال تعبير «فقير» أو «غير فقير»، بل «أسر تحتاج إلى مساعدة وهي تبيع أصولها وتستعمل ما تبقّى من مدخراتها».
أما الحركة الاستهلاكية الناشطة، فلا تعبّر عن مستوى الفقر حالياً لأسباب موضوعية أبرزها تحويلات المغتربين. كانت هذه التحويلات تأتي إلى الطبقات الوسطى بشكل أساسي، لكنها اليوم باتت تتركّز في الطبقات الفقيرة وبمبالغ مالية متدنية لا تتجاوز 100 دولار شهرياً. مبلغ كهذا يعني الكثير لعائلة محتاجة. كذلك، لا يغفل نعمة أن عشرات ملايين الدولارات التي أتت إلى لبنان على شكل مساعدات للأسر، وخصوصاً بعد انفجار 4 آب، وهناك مبالغ كبيرة تقدر بأكثر من مليار دولار سنوياً تأتي على شكل مساعدات للأسر السورية النازحة.
بهذا المعنى، لا يمكن تقدير الفقر تبعاً للقواعد المتعارف عليها المتعلقة بالدخل. «فالتدهور شديد، وكل ما يحصل الآن يأخذنا نحو تدهور أشدّ. هناك تحوّل اجتماعي وتفاوت شديد في الدخل سيتحول إلى ظاهرة دائمة وثابتة في لبنان بين قلّة محدودة مستفيدة، وغالبية ساحقة وضعها سيئ وستبقى بحاجة للمساعدة». هكذا يصبح الحديث عن التحويلات النقدية أمراً تافهاً عند قياس الفقر رغم أنه يمثّل معونة للأسر. لكن الفقر الذي وقع فيه لبنان مختلف، فالحاجات الغذائية للأسر كانت تسدّ من المداخيل وباتت تسدّ من التحويلات ومن المساعدات وبطريقة تقليص الاستهلاك. ويضاف إلى ذلك أن الاستدلال على الفقر بات واضحاً في مظاهر من نوع رفض الأساتذة النزول إلى المدارس للتعليم، وهروب العسكريين من الخدمة، ورفض موظفي القطاع العام العمل أكثر من يومين في الأسبوع… ثمة الكثير من المؤشرات وكلها تدلّ على أن الفقر لم يعد يتعلق بالدخل وحده، بل في مشاكل الخدمات العامة مثل الاستشفاء والتعليم والدواء. هذه المشاكل ستظهر بصورة أوضح مستقبلاً.
50% من الأفقر في لبنان يملكون 0.1% من الثروة
«القول إن خسائر الأسر هي 10 سنوات أمر قليل جداً، فلبنان ذاهب نحو عشرات السنوات من الفقر الهيكلي» بحسب نعمة. فلنأخذ مثلاً السكن. تجديد عقود الإيجارات وكلفة السكن ستكون هائلة مستقبلاً على الأسر ذات المداخيل المحلية، والكهرباء حالياً تدفع وفق تعرفة متدنية مدعومة، والديون السوقية ما زال قسم منها يدفع بسعر صرف الـ1500 ليرة. «سيكون لدينا نمط من الفقر الشديد والعميق في الأيام المقبلة».
أقلّ ما يقال عن تعاطي الدولة مع هذا الأمر أنه كارثي. فالأكثر فقراً ونسبتهم كما هي لدى الجهات المعنية والذين سيتقاضون مساعدات مباشرة، تبلغ 20% بينما هناك 80% بحاجة للمساعدة، أي أن نسبة الـ60% ليست على جدول أعمال السلطة.
هذا النوع من المساعدات قد يتحوّل إلى مشكلة في ظل ارتفاع الأسعار الحالي. فالأسعار تواصل الارتفاع لتصبح موازية لسعر الدولار في السوق الحرّة وشرائح العمل في لبنان تسمح لنفسها بزيادة أسعار الخدمات المحلية ليس انسجاماً مع كلفة الإنتاج، إنما قياساً مع تعزيز قدراتها على الاستمرار للحفاظ على مستوى معيشة معين. لهذا السبب نرى أن بعض فئات المهنيين والعاملين لحسابهم ما زالوا يعيشون ضمن مستوى مقبول لأنهم يسعّرون خدماتهم وفق تقديرات المعيشة المبنية على مستوى معين.