“السلطة الفعلية هي الخدمة”، يقول البابا فرنسيس. لكن السلطة في لبنان ليست خدمة اللبنانيين بل إستخدامهم لمصلحة الزعماء. والتنافس ليس على أفضل البرامج لإنقاذ البلد والناس بل على ضمان المواقع والمراكز التي تبيض ذهباً. فاللعبة المفضلة هي إما ترتيب الصفقات، وإما تعطيل اللعبة. والرياضة الوطنية لدى أمراء الطوائف هي الركض نحو العواصم الإقليمية والدولية للإستقواء بها. لا خبراء في العالم يتقدمون على “الخبراء” اللبنانيبن في قراءة “الطقس الإستراتيجي” القريب والبعيد وبناء المواقف عليها. ولا بلد، مثل لبنان، يتنقل بين ممارسة السياسة “البلدية” وانتظار التطورات الخارجية والرهان عليها في موازين القوة المحلية.
كل طرف يتصور أن ما يحدث في الخارج يمكن أن يقوّيه ويضعف خصومه: نهاية الحرب في سوريا واليمن، مصير المشروع الإيراني، خروج أميركا من الشرق الأوسط أو إخراج إيران وأميركا من العراق، إتفاق نووي أو لا إتفاق بين أميركا وإيران، تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، وأخيراً حرب أوكرانيا. وفي الإنتظار ينهار لبنان، ويهاجر من هو قادر من اللبنانيين، ويستمر اللاعبون في لعبة التأويل وأحياناً التزوير بالنسبة الى المواقف الخارجية. تأويل المواقف الأميركية والفرنسية والروسية والصينية والخليجية حيال لبنان حسب الرغبات الذاتية، بحيث تبدو كأنها صناعة لبنانية. وتزوير الأقوال المنسوبة الى شخصيات، ولو كانت اللعبة مكشوفة في “لبننة”عواصم العالم.
وإذا كان المجال مفتوحاً لتعدد القراءات في سياسات الكبار المتغيرة أصلاً حسب الظروف والمصالح والحسابات، فإنه مغلق على خطأ القراءة في سياسات ثابتة. وأبرز السياسات الثابتة حيال لبنان هي في موقف إيران وموقف الفاتيكان. طهران تمارس الدهاء الديبلوماسي، لكنها تقول بصراحة إنها “تحكم أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء”. وأي تأويل هو تمارين في العبث. والفاتيكان يمارس ديبلوماسية “سرية” بارعة، لكن موقفه من لبنان معلن وثابت. حجر الأساس فيه هو قول البابا يوحنا بولس الثاني عن لبنان: “أكثر من بلد، إنه رسالة”. فلا بلد من دون الرسالة التي هي العيش المشترك. ولا رسالة من دون البلد الذي له هوية وتاريخ وثقافة. ومن المستحيل أن يدعم الفاتيكان أي طرف يريد تغيير هوية لبنان وتاريخه. كذلك أن يعمد البابا فرنسيس الذي وقّع “وثيقة الأخوة الإنسانية”مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في أبو ظبي الى مباركة “حلف الأقليات” الذي هو مشروع حرب دائمة.
ذلك أن الفارق كبير بين الدعوة الى محاورة كل الأطراف وبين التسليم بـ “عسكرة” طائفة وتسلح حزب ديني في بلد العيش المشترك. أليس واضحاً قول وزير الخارجية الفاتيكاني المطران بول ريتشارد غالاغر “توقفوا عن إستخدام لبنان من أجل المصالح الخارجية”؟ وأي التباس في عظة رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ساندري: “لبنان الوصية يجب أن يبقى أميناً لهويته بين دول الشرق الأوسط، والبحث عن الأمان عبر التحالف مع الطغاة يدمر الهيكل ويسبي الشعب”؟
من الخطايا السبع عند غاندي “ثروة بلا عمل، وسياسة بلا مبدأ”. كأنه كان يتحدث عن لبنان اليوم.