ثمة أهمية استثنائية ترتديها زيارة البابا فرنسيس للبنان، في حزيران المقبل. فالتوقيت يحمل مغزى سياسياً عميقاً. ويراهن البعض على أنّ الزيارة، إذا تمَّت، ستكون أول إشارة حقيقية لخروج لبنان من الحفرة. فهل هذا الرهان في محلِّه أم ستتجدَّد الخيبة؟
فوجئ كثيرون بأن البابا حدَّد موعد زيارته للبنان مباشرة بعد الموعد المقرَّر للانتخابات النيابية في 15 أيار. وسبب المفاجأة هو أن مسؤولي الفاتيكان يعرفون مسبقاً أن هذه الانتخابات لن تُفرز طاقماً سياسياً جديداً يعوَّل عليه لتغيير الواقع، وأنها ستكرِّس هيمنة الطاقم الحالي المعروف بفساده منذ عقود، والذي يُحمِّله المجتمع الدولي مسؤولية عن الكارثة.
فهل مِن أحدٍ أعطى الفاتيكان صورةً أخرى عن نتائج الانتخابات، وأوحى بأنها ستحمل التغيير فعلاً أو أن المجلس الذي ستفرزه سيكون جديراً بالإنقاذ؟
في العادة، لا يزور البابوات دولاً مأزومة إذا كانوا سيوحون بأنهم يباركون الأمر الواقع فيها ويوافقون على تكريس الأزمة. والزيارات البابوية، عبر التاريخ، كانت إمّا تُطلق إشارات إلى بداية الانفراج، وإمّا تأتي تتويجاً لانفراجات تحقَّقت فعلاً، فتأتي الزيارة البابوية لتكرِّس الواقع الجديد.
البعض يميل إلى هذه الفرضية المتفائلة، ويقول: تحديد موعد الزيارة في حزيران يتزامن مع إشارتين أخريين مفاجئتين وتَصبّان في خانة الإيجابيات، في الشكل على الأقل: الانفراج مع دول الخليج والاتفاق الأوَّلي مع صندوق النقد الدولي. وهذا يوحي بأنّ هناك تسويات تُطبَخ في الكواليس الإقليمية والدولية، وليس مستغرباً أن تظهر مفاعيلها تباعاً.
ويضيف هؤلاء المتفائلون: الفاتيكان، بموقعه المعنوي، يحظى برصيد دولي وازِن وشبكةِ علاقات ومعلومات تسمح له بإدراك المواعيد الفاصلة للتحوُّلات الكبرى. وعلى الأرجح، توافرت له معلومات مفادها أنّ لبنان بدأ المسار المعاكس من جبل الأزمة، أي مسار التسوية. وهذه الفرضية المتفائلة ليست جديدة، ويتمّ التداول بها منذ صيف العام الفائت في الأوساط الديبلوماسية الأوروبية خصوصاً، وهي ترتكز إلى دور فرنسا في لبنان، وإصرار الرئيس إيمانويل ماكرون على إنجاح مبادرته.
ووفقاً لهذه النظرة، ما يسهّل مهمّة باريس هو التقاطعات الإقليمية والدولية التي بلورتها الحرب في أوكرانيا، والتي ستنعكس إعادة خلط للأوراق في الأزمات الإقليمية خلال الأشهر المقبلة، وفي مقدِّمها الأزمة مع إيران، حيث يتنامى الاعتقاد أن الاتفاق الشامل بينها وبين الولايات المتحدة في فيينا لن يتأخر كثيراً.
كما أن العلاقات بين إيران والخليجيين ماضية في التحسُّن. وثمة رغبة مشتركة لدى السعوديين والإيرانيين في استئناف المفاوضات قريباً في بغداد. وهذا الأمر سيمنح الفرنسيين هامشاً إضافياً لتحريك المياه الراكدة في المستنقع اللبناني.
ولكن، في المقابل، ثمة مَن يحذّر من المبالغة في التفاؤل منعاً للوقوع في خيبة جديدة. ويقول: حتى الآن، لا شيء يوحي بالثقة في تحقيق انفراج في لبنان. فالأميركيون لم يُظهِروا بعد حقيقة نظرتهم إلى الانتخابات والحراك الديبلوماسي المستجدّ.
وليس واضحاً مدى اقتناع الأميركيين بالحدود التي يذهب إليها الفرنسيون في مُراضاتهم لإيران، ولا مدى استعدادهم لتسهيل الحل ومباركته، فيما تتعثّر وساطة عاموس هوكشتاين في ملف الغاز مع إسرائيل. وطبعاً، ليس واضحاً موقف إسرائيل وما يمكن أن تفعله إذا اكتشفت أنها متضرِّرة من التسوية، وأن لبنان على وشك تحسين شروطه في الناقورة.
أكثر من ذلك، ما مدى استعداد طهران لتسهيل الحلّ في لبنان، إذا وجدت أن الوضع الحالي أكثر ملاءمة لضمان مصالحها؟ وهل ستوافق على إبرام الصفقة مع الفرنسيين والخليجيين، وهي التي أرادت دائماً عقدها مع الأميركيين حصراً، لأنهم وحدهم قادرون على دفع الأثمان لها؟
ولذلك، هناك مَن يخشى أن تكون علامات الانفراج الظاهرة اليوم في لبنان مجرد حقنة تخدير يُراد منها فقط إمرار الانتخابات النيابية والرئاسية التي تراهن عليها القوى الدولية، وأن يكون الآتي بعدها هو انهيارات إضافية.
وفي هذه الحال، لا تكون الزيارة البابوية إعلاناً عن اقتراب التسوية ولا مباركةً وتكريساً للستاتيكو الحالي، بل «زيارة طوارئ» يُراد منها منع لبنان من الدخول في الانزلاق الذي تؤخِّره قوى السلطة إلى ما بعد الانتخابات.
لقد أهدرت هذه القوى في الأشهر الأخيرة أكثر من 1.5 مليار دولار لتجميد سعر الصرف وأوقفت اصطناعياً إجراءات زيادة الرسوم في الكهرباء والاتصالات وسوى ذلك من أجل إمرار الانتخابات. ولذلك، هناك من يَخشى الأسوأ، ويتوقع احتقاناً وانفجاراً اجتماعياً غير مسبوق بعد 15 أيار. وفي هذه الأجواء، هل سيُبقي البابا على موعد زيارته في حزيران؟
منطقياً، هذا الموعد قائم، لكنه ليس مضموناً. ما دامت التسويات السياسية التي تلوح مؤشّراتها اليوم في لبنان غير مضمونة أيضاً.