Site icon IMLebanon

البابا صفير!

 

 

أتذكّر جيداً، كما لو أنّها البارحة، كنّا مجموعة من الشباب والشابات في عمر الطعش، نحمل أعلاماً حزبية متنوّعة وصور زعماء ويافطات، ونركض تحت الشمس من مفرق إلى مفرق، ومن طريق فرعية إلى أخرى، لمشاهدة موكب البابا يوحنا بولس الثاني يجول بسيارته البيضاء شوارع بيروت عام 1997، وأتذكّر جيداً لهفة الحماس التي كنّا نشعر بها لدى هتافنا شعاراتنا التي كنّا محرومين من غنائها.

 

وتوّجهنا بعد الظهر، بعتادنا وعرقنا وتعبنا وحماسنا إلى كاتدرائية سيدة لبنان في حريصا، ووقفنا هناك في الساحة الكبيرة ننتظر إطلالة البابا من على الشرفة ليبلّل آمالنا بوعد أو قرار أو أي شكل من التغيير. لكن وقتها، كما لو أنّ كلام البابا يوحنا بولس الثاني لم يعنينا، أو الأرجح لم نفهمه، بل الذي دخل قلوبنا وسكن أفكارنا كان كلام البطريرك صفير حينها.

 

هل هي أعجوبة كانت، أو لحظة تجلٍّ، أو مرحلة وعي، لا نعلم… ولكن بعد كلام البطريرك، إنتبهنا إلى أنّ الساحة كانت مقسّمة إلى مجموعات، وكل واحدة تنادي باسم مصالحها وزعمائها… تنبّهنا إلى أنّ لكلّ مجموعة قضية وشعاراً وعلماً… أمّا ذلك الملتحي الوقور، فكان ينادي بقضية واحدة جامعة رسولية وطنية سياسية، كان يتحدّث باسمنا مجتمعين نحن المنقسمين، كان يكدّس كل همومنا ومطالبنا في كفّ، وفي الكفّ الآخر كان يلوّح لنا بالحرّية والانعتاق.

 

أدركنا في لحظتها، أنّ جنب البابا القادم من الفاتيكان، كان يقف هناك بابا آخر، بابا لنا نحن الشباب اللبناني الذين كنّا أيتام الأمل، بابا يخاف علينا بلا تفرقة ولا تفضيل، بابا يريد مصلحتنا الوطنية وليس الشخصية، بابا يلبس جبّة سوداء حتى لا تبان عليها دموع أولاده وهمومهم ومخاوفهم التي كان يمسحها بها، ويقول كلمته ويمشي.

 

أتذكّر أن ليلتها، تركنا نحن المجموعة أعلامنا في الساحة فوق، وتركنا معها إنقساماتنا، وعدنا الى الطريق حاملين قضية أخرى زرعها فينا البابا صفير، قضية ليس لها لون او علم أو يافطة أو صورة، قضية لها بلد إسمه لبنان.

 

لا نخفي أنّ حينها خفنا أن يخذلنا كما خذلنا كثير من زعمائنا، أن ينكث بوعوده ويبدّل مواقفه ويرضخ. لكن قبل أقل من 4 سنوات وفي عام 2001 كنّا شهوداً على وطنيته الراسخة والمتجدّدة بالمواقف الجريئة، وتابعنا دعوته إلى لقاء قرنة شهوان التي فاقت برمزيتها لدى البعض ما أنجزه رجالات وقامات وطنية في قلعة راشيا عام 1943. كما تمكّن وحيداً، وقبلها بعام فقط، من إنجاز ما عجزت عنه كل البواريد والمتاريس والتحالفات والزعامات، ورسّخ مصالحة الجبل عام 2000 وضَمَن عودة آلاف العائلات المهجّرة إلى قراها. خفنا أن يخذلنا، ووجدنا أنفسنا نستكمل الطريق مع مواقفه وتصريحاته إلى ثورة الأرز ورحيل الجيش السوري وانبثاق الاستقلال الثاني.

 

منذ 22 عاماً، كنّا مجموعة، ثم أصبحنا مجموعات، ومواطنين من كلّ الأديان والطوائف، ثم أصبحنا بلداً بأكمله يؤمن أنّ صيف الديمان وشتي بكركي كانا دائماً مع البطريرك صفير تحت سقف الحريّة.

 

بابا صفير، نحن لن ننتظر تقديسك ولا حتى تطويبك، ولن نحتاج في حياتنا إلى شهادة من أحد لنعرف كم أحببناك، واحترمناك، وصدّقناك، وتركنا كثيراً من المعتقدات والاصطفافات وتبعناك… لن نحتاج شهادة من أحد لنعرف كم آمنا بك وبأقوالك ومواقفك وأفعالك، لن نحتاج شهادة لنقدّس ذكراك ونحلف باسمك ونتمثّل بك عند كلّ استحقاق وطني.

 

بابا صفير، أنت قلت ما قلته، وفعلت ما فعلته، وحقّقت ما حقّقته، ورحلت… ويبقى لنا من بعدك بلد مؤتمنين على حمايته من غرورنا وجهلنا وطمعنا.