Site icon IMLebanon

«الحشد الشعبي»… وتحييد لبنان

ليست صحيفة «واشنطن بوست» وحدها التي أبدت الخشية من أن يفقد لبنان حياديته في الصراع الإقليمي والدولي القائم في المنطقة، فالسؤال عن مدى قدرة بعض الطبقة السياسية اللبنانية على ضمان الحيادية مطروح يومياً.

ومن لا يقرّ من الساسة اللبنانيين بأن البلد في امتحان دائم على هذا الصعيد يكون كمن يضع رأسه في الرمال ويعتقد أن الآخرين جهلة. فهدف تحييد لبنان عن صراعات المنطقة شعار جميل قابل للتطبيق لو أن هناك اتفاقاً فعلياً لا لفظيًا بين المكوّنات الداخلية عليه.

السؤال عن قدرة لبنان على تحييد ذاته عن صراعات المنطقة تحوّل سؤالاً عن مدى احتمال قوى إقليمية رغبة فرقاء محليين باعتماد هذه السياسة في وقت تتوالد الأحداث وتجعله مسرحاً لوقائع خارجية.

والمسألة تتجاوز قدرة لبنان على تحييد نفسه على رغم اعتداد فرقاء كثر بهذا الطموح. أبسط الأمثلة أن «داعش» وحده قادر على إطاحة سياسة التحييد هذه، عبر العمليات الإرهابية التي نفذها سابقا أو سعى إلى تنفيذها، شأن العمليات التي حدثت في غير بلد بعيد أو قريب. وأكثرها وضوحا فتح «حزب الله» الحدود بين لبنان والمسرح الحربي السوري في شكل غير مسبوق للسيطرة على أجزاء منه.

وإذا كان هناك من يشك في التحدي اليومي لقدرة لبنان على تحييد نفسه، يكفي حدثان راهنان للدلالة على إلحاح هذا التحدي.

في المعركة لتحرير جرود عرسال كان صعباً التمييز بين البعد الإقليمي والأهداف اللبنانية الأكيدة لاندلاعها وهي أنها للتخلص من مجموعات إرهابية، مع أن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قال إن قراراً ذاتياً كان وراءها لا دخل لإيران وسورية فيه، بينما تتغنى طهران بالانتصار المحقق. أما الحدث الثاني فكان رسالة الكويت إلى الحكومة اللبنانية مطالبة إياها بأجوبة واضحة وجدية عن إجراءات لبنان لردع الحزب عن تقويض أمنها بعد إدانة الحزب بتمويل خلية العبدلي التي نفذت عمليات إرهابية وتسليحها وتدريبها، وكانت تنوي القيام بعمليات غيرها، فائقة الخطورة، بدعم إيراني.

وللبنان تاريخ من ارتباط المعادلة فيه بمجريات الإقليم، وسوابق لا حصر لها من طموحات قواه الداخلية لفك هذا الارتباط. وكل المحاولات السابقة للفصل بين المسارين اللبناني والإقليمي للحروب الداخلية فيه وفي المنطقة، فشلت على مرّ التاريخ. هكذا حصل في مراحل الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975 على رغم محاولات عربية ودولية لتحقيق هذا الفصل. وهو ما تكرّر عندما جرى ربط لبنان بالسياسات السورية إلى درجة أدخلت المخابرات السورية في حينها في أحشاء المؤسسات اللبنانية السياسية والإدارية والعسكرية وتفاصيل المشهد الداخلي. ومن يعرف تاريخ البلد يدرك أن الأمر لم يكن مختلفاً في الأزمات الداخلية السابقة، بما فيها التي وقعت في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع تقاسم النفوذ الدولي في المنطقة، إذ استخدمته الدول منصة لترتيب هذا التقاسم.

المرة الوحيدة التي أخذت السياسة اللبنانية قدراً معقولاً من الاستقلالية عن الصراع الإقليمي كانت إبان عهد الرئيس جمال عبد الناصر حين اتفق مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب، ما أتاح تجنيب البلد الالتحاق الكامل بتعقيدات هذا الصراع، فأسس الأخير بناء تحديثياً للمؤسسات اللبنانية. ومع ذلك لم تنج تلك المؤسسات من آثار الإجازة الخارجية للحاكم اللبناني أن يتصرف باستقلالية، فنشأ حكم «المكتب الثاني» (المخابرات).

ولا يختلف الأمر في حالة «حزب الله» كقوة إيرانية إقليمية، مهما جرت تغطية دوره بهويته الداخلية كمكوّن لبناني. ومثلما أن دوره الإقليمي في سورية والعراق واليمن والبحرين وسائر دول الخليج، هو بالتعريف إيراني، فإن وزنه في المؤسسات اللبنانية كافة انعكاس حتمي لكل ذلك.

مع صعوبة تكرار تجربة عبد الناصر- شهاب، لأن الرئاسة اللبنانية ترمز حتى إشعار آخر إلى الالتحاق بالمحور الذي ينتمي إليه الحزب، يكرّر رئيس الحكومة سعد الحريري شعار تحييد لبنان تارة، وشعار تحييد الخلافات الداخلية عن العمل الحكومي تارة أخرى، ويحيل إيجاد حل لمسالة «حزب الله» إلى «الإطار الإقليمي». فالتحدي الذي لا يحسد عليه في ظل اختلال ميزان القوى الإقليمي يجعل مهمته أصعب من أسلافه.

وتحييد لبنان مرتبط بقدرة نصرالله على ملاقاة الحريري، وهو امر مستحيل مع اضطرار ايران لمواجهة ضغوط أميركية وعربية جديدة، والحريري غير قادر أن يتقمص شخصية حيدر العبادي في العراق بتشريع دور الحزب، كما شرّع الأخير «الحشد الشعبي» ليفتح الحدود مع سورية. قد يكون الحريري لقي تفهماً في واشنطن، لكن الحزب قد لا يتيح لدول عربية ذلك بعد أن صبرت طويلاً.