كشفت تطورات الشهرين الأخيرين عجزاً فظيعاً لتيار العماد عون عن تسيير تظاهرة واحدة ناجحة، ونجاحاً منقطع النظير للحركات الاحتجاجية المدنية والشعبية في مواجهة الكارثة الوطنية.
تشكّل معضلة النفايات بعداً حيوياً لا يحتمل التسويف والمماطلة والاعتباط والتهرّب من هذه الكارثة الوطنية. فالاستعصاء وخلفيته هنا، فيه استفزاز للناس، وفيه تعجيز واضح لكل من يريد المواظبة على السياسات نفسها التي لزّمت هذا القطاع وسواه.
لا يعني هذا أن ضحالة تيار عون التظاهرية تعني الشيء نفسه انتخابياً، على افتراض حصول استحقاق، ولا أن الوهج الجماهيري لحركة الاحتجاج قادر لو حصلت انتخابات الآن، بالمتداول من قوانين «ترقّع على الستين»، على أن يأتي بتغيير برلماني على قدر الزلزال الميداني الذي يخطئ للغاية، بل أكثر، يدفع في السياسة ما بقي له من رصيد كل من يضع نفسه في مواجهة الحراك برمته، وفي مواجهة الطبقات الشعبية والأجيال الشابة والمناطق التي ما عادت تقبل أن تبقى في درجة ثانية أو ثالثة نسبة لمناطق بامتيازات.
ليس هناك من طرف سياسي معفى من الرسالة الشعبية الهادرة. والمكابرة قد تبدو سهلة في البداية لكنها لن تُفلح في وضع العصي في دواليب الناس الذين سأموا من كل هذا الاستهتار بمصالحهم وصحتهم وأمنهم وسلامتهم وكرامتهم.
ولتكن مصارحة ومكاشفة داخل البيئات السياسية والأهلية التي صنعت انتفاضة الاستقلال وواجهت لسنوات محاولات «حزب الله» الهيمنية على البلد: هذه البيئات لم تعد تستخدم عنوان الحركة الاستقلالية للتعبير عن نفسها منذ وقت غير قصير، وسمحت لنفسها، بحكم الضرورة تارة، والتبريرية السهلة تارة أخرى، بالدخول في منطق «مهدوي معكوس» من قبيل، أن لا معالجة لقضية اجتماعية أو بيئية بالشكل السليم في البلد قبل معالجة موضوع «حزب الله»، في اقتباس فظيع للنظرية «المرحلية» من الأحزاب الستالينية، وإنما في قالب اقتصادي اجتماعي مندفع بشكل عقائدي جداً نحو النيوليبرالية وعدم الاكتراث للطبقات الشعبية. إن هذه البيئات والقوى مدعوة بالفعل لمراجعة تاريخية باتجاه انعطافة الى اليسار على كافة المستويات وفي كافة الأطر. كي تعود الحركة الاستقلالية كذلك عليها أن تحمل مضموناً اجتماعياً أكيداً، وواقعياً وملموساً. هذا صعب، لكن ليس ثمة من مآل آخر يمكن أن يقدّم كنصيحة نهائية.
بالتوازي، ما عاد ينفع الهروب من بنيوية الأزمة الحالية بطرح المسائل بصيغة «لو» و»لعلّ وعسى». الأزمة دستورية بمعنى أساسي: فالسؤال الذي يتهرّب أكثرنا من طرحه، منذ نهاية الحرب الأهلية وقيام الوصاية السورية وبعدها قيام الثنائية الآذارية: من هي، وفقاً للدستور، مرجعية تفسيره، في لبنان؟ رئيس الجمهورية؟ رئيس مجلس النواب؟ البرلمان؟ من؟
هناك حالتان في السنوات العشر الأخيرة عوملت بها المفاتحة الرئاسية للمجلس النيابي، مرة بخصوص لا دستورية قانون الانتخاب، ومرة بخصوص لا دستورية عدم قيام الانتخاب، على أنها تجاوز رئاسي للصلاحيات، في دستور ينيط برئيس الجمهورية كرئيس للدولة، أن يكون مؤتمناً على الدستور؟ الإبهام، نصاً وتجربة، بل تعطيل دور رئيس الدولة في حماية الدستور، وتعطيل ذلك بشكل أساسي بسبب التمديد الرئاسي، خصوصاً في حالة العماد اميل لحود، كل هذا يشكل عنصراً أساسياً من المطب الذي يواجه السياسة، والمؤسسات الغارقة بين شغور وتلف وبين موت سريري الآن.
ضرب تجربة المجلس الدستوري ساهمت بشكل أساسي في التفسخ اللاحق لكامل البنيان. لكن ما حدث على صعيد اختزال المؤسسة التشريعية برئيسها، وتحويل رئيسها الى الفقيه المرجع في تفسير الدستور، فيجيز ما يجيز ويعطل ما يعطّل، كل هذا أيضاً راكم على المشكلة الأساسية: من إذا اختلفت الناس في ما بينها على تفسير بند في مقدمة الدستور أو مادة من مواده يمكن الرجوع الى رأيه؟
طبعاً، بلدان أخرى يمكنها أن تقع في مثل هذا وتعتمد الاستفتاءات الشعبية، لكن هذا لا طريق دستورياً اليه عندنا، وأمامه عراقيل سياسية كثيرة بتبرير أو من دونه. فإذا جمعنا الى ذلك عدم حصول الاحتكام المحدود الى صناديق الاقتراع منذ ست سنوات، «عوضناكم البركة«.
هناك بعد دستوري أساسي للأزمة الحالية. لا يمكن أن يبقى البلد بلا رئيس جمهورية هكذا، وبلا انتخابات نيابية هكذا، وبكارثة النفايات هكذا، وبالمشاركة في الحرب في سوريا هكذا. في الوقت نفسه، كل هذا مرتبط بمسألة: من الذي هو وفقاً للدستور، مفسر الدستور إذا اختلف جميع المفسرين في ما بينهم؟.