IMLebanon

الدين الشعبي، قبل البترول وضدّه، سان حسن نصرالله

في المشرق، كانت الأديان والمذاهب، دوماً، عناوين سلطوية وعصبيات مفروضة على العامّة الذين لم يعرفوا، في واقع الحياة، سوى دين واحد هو دين الفلاحين، المرتبط بثلاث عقائد رئيسية، لا تعبّر عن المقدّس، بقدر ما تعبّر عن حياة الفئات الفلاحية الشعبية، وتطلعاتها نحو السلام والأمان والغلال؛ أو ربما نكون أكثر دقة أن تلك الحياة وآلامها وآمالها هي، بالذات، ما أصبح قدسياً. العقيدة الأولى هي عقيدة البطل الفرد المقاوم الشهيد؛ إدونيس، إنانا، المسيح، الحسين؛ الفكرة المركزية التي يلخّصها البطل القديس، هنا، هي فكرة المسؤولية الإنسانية الفردية إزاء مقاومة الظلم، حتى لو تخلى المظلومون عن قضيتهم.

العقيدة الثانية هي عقيدة عودة البطل المقدس، مرة أخرى، مدججاً بقوة التاريخ التي ستنهي المظلوميات والصراعات، وتحل عهد الإخوة الإنسانية المشتهى.

العقيدة الثالثة، التي سأقف عندها اليوم، هي العقيدة الحيّة للصراع الاجتماعي، المرتبطة بالبطل الهمام، نصير الفلاحين، القادر على مواجهة الظالمين، وتأمين سلامة المجتمع الفلاحي، ضد الوحش الصحراوي؛ إنه جينورجيوس (الفلاح أو المزارع)، ومن أسمائه جاورجيوس وجاورجس وجريس وجورج. ونصير الفلاحين له لقب لاصق هو (سان ـــ السيد)؛ سُمّي، بالعربية، (جرجة)، لكن لقبه الشعبي هو «الخضر لَخْضر» الفتى المقدام، صاحب السيف الذي لا يهزم. وهو الإمام علي: «لا فتى إلا علي، لا سيف إلا ذو الفقار». جاورجس كان شفيع القبائل العربية المسيحية، وأصبح عليّ شفيع العرب، مسيحيين ومسلمين؛ تقول النساء المسلمات والمسيحيات في الأردن، لترقية أولادهن: «اللّه وعلي».

درستُ الدين الشعبي في شرقي الأردن، وهو مسرح نموذجي للصراع بين العشائر نصف البدوية، نصف الفلاحية المستقرّة في الجبال والسهول، العشائر التي تزرع القمح وترعى الخراف والماعز ـــ بما يفرض عليها التنقل المستقر في حيز محدود، وبين بدو الجَمل، أي عشائر الصحراء، غير المنتجة، والتي تحصّل معاشها بالغزو في معادلة «الأهل والغنيمة».

وجدتُ أن دين العشائر المستقرة ـــ قبل قيام الدولة والمؤسسات الدينية الحديثة ـــ كان، على تعدد الأديان والمذاهب، واحداً، هو المتمحور حول: «الخضر لَخْضر». ومن الواضح ان الاسم يرتبط بالزراعة، وكانت مقامات الخضر مشتركة بين المسلمين والمسيحيين، بل إنها كانت تُشاد في أماكن متوسطة بين التجمعات السكنية، كما هو حال مقام الخضر بين ماحص (المسلمة) والفحيص (المسيحية) في البلقاء.

دين الخضر لم يكن منفصلاً عن الحياة وصراعاتها الفعلية، فقد كان الخضر يتجسد في قوّة قبلية منظمة من مقاتلين أشداء، تقودها نخبة تنسب إلى آل البيت. وهكذا تكتسب شرطيّ القوة والقداسة معاً. وهي نفسها، تدير عملية زراعية خاصة بها، وتنتصر للفلاحين في مواجهة اضطهاد بدو الجَمَل وسواهم من المضطهِدين السلطويين. ولطالما تجسدت هذه الرؤية الدينية في علاقة سياسية. وكمثال، انتصار قبيلة «العدوان» التي تنتسب قيادتها إلى آل البيت، لفلاحي الفحيص ضد الامارة الغزاوية. والأحداث التي قاتلت فيها قبائل توحدت وراء قيادة من آل البيت، لمصلحة الفلاحين في القرون 17 و18 و19، كثيرة في التاريخ الاجتماعي الأردني. وهو نموذج يمكن تلمسه في أنحاء عديدة من بلاد الشام والعراق، متخذاً أشكالاً عديدة لا تمسّ جوهره.

لم يكن التنظيم الاجتماعي ـــ السياسي في الجزيرة العربية، بعيداً عن هذا النموذج، فالقسم الأساسي من الأسر الحاكمة ـــ الحامية في مناطق الجزيرة، كانت نخباً قبلية تنتسب إلى آل البيت، ونظمت قوة مقاتلة، وجمعت حولها فئات منتجة من مزارعين وصيادين وغطاسين وملاحين، في مواجهة بدو الجَمَل الجوّابين الغزاة. وخلال الصراع، تبنّت قبائل الأهل والغنيمة الدين الوهّابي لتكوين قوة مقاتلة، مقدسة، تهزم التحالف المقاوم القائم بين النخب المنتمية لآل البيت والمقاتلين والمنتجين، وترابطها الأيديولوجي القائم على صيغ محلية عديدة من التشيّع الشعبي.

ليس من دون معنى، تلك الاتهامات التي تساق حول الأصول اليهودية لمحمد بن عبد الوهّاب، مؤسس الوهابية، وبغض النظر عن صحة تلك الاتهامات، فإن الأصول الفكرية للوهابية ـــ وكل مدارس السلفية والإسلام السياسي الناتجة عنها أو التي تسير في خطها ـــ هي يهودية تلمودية، تنتمي إلى تقاليد الإله (يهوه) رب الجنود، القتّال، الغازي، رئيس عصابة اللصوص باسم الرب الذي يأمر بقتل الأغيار وتدمير بلادهم وسبي نسائهم وحرق الحرث والضرع (ثروة الفلاحين).

هذا ما فعلته وتفعله الوهابيّة منذ غزواتها الأولى في الجزيرة والعراق وبلاد الشام، وما تزال تفعله، مدججة، من دون أن تتغير، بالبترودولار والدعم الامبريالي للغزاة، صهاينة ووهّابيين.

في هذا الزمان نزعم ان المقاومة أعادت تأسيس الدين المشرقي، نضالاً وروحاً. سان جاورجس لا يموت.