الى ان تجلو حقائق الانفجار الهائل في مرفأ بيروت، في ما تبقى من مهلة الايام الخمسة، فإن هرم المسؤولية اداري – امني – سياسي. من تحت الى فوق. حجم الكارثة، ضحايا وخسائر، تجعل الجميع متهماً الى ان تثبت براءته، لا بريئاً الى ان يُثبت اتهامه
كل المعلومات التي تجمّعت عن حمولة 2755،5 طناً من نيترات امونيوم – وهو الرقم الدقيق لهذه الكمية المنفجرة – منذ لحظة رسوها في مرفأ بيروت في 16 تشرين الثاني 2013، ثم انزالها حمولتها بعد سبعة اشهر في 28 حزيران 2014، الى لحظة انفجارها في 4 آب 2020، التقت على تأكيد عِلم كل مَن كان في مرفأ بيروت من ادارات وأجهزة بما وُضع في العنبر 12، وعِلم مَن هم ابعد ايضاً. عشرات المراسلات تبادلتها الادارات والاجهزة هذه في ما بينها ومع القضاء – وهو ذو دور رئيسي في الوصول الى الانفجار وفي كل ما ترتب عليه – من غير ان تفضي الى حل للقنبلة الموقوتة في ذلك العنبر واخراجها منه. المراسلات الاخيرة الاقرب الى الفضيحة والجريمة، بدءاً من القضاء وصولاً الى الجهات المسؤولة المعنية العاملة على ارض المرفأ، اظهرت الاهتمام بأهون السبل: سد فجوة الحائط وصيانة باب العنبر وتأمين الحراسة عليه، والاطنان في الداخل، من دون ايجاد حل لاخراجها من البلاد.
ليس خطيراً ادخال نيترات امونيوم الى البلاد. بل هو مألوف عندما تكون نسبة الآزوت فيها تقل عن 11%، ويرمي استيرادها الى تصنيع محلي لاسمدة زراعية. الخطير فعلاً ان هذا الكمّ من الاطنان لم يكن مستورداً الى الداخل، ويحتوي على نسبة عالية من الآزوت هي 34،7% يجعلها تدخل في تصنيع المتفجرات.
اول مَن كشفت خطورة استمرار ابقاء الاطنان في العنبر 12، مراسلة الجيش الى المديرية العامة للجمارك، رداً على مراسلة الاخيرة اياه في 27 شباط 2016 بامكان استخدامه هو هذه الكمية المتروكة في العنبر ووضعها عنده. كتب اليها الجيش في 7 نيسان 2016 انه ليس في حاجة اليها نظراً الى احتوائها الكمية العالية من الآزوت (34،7%)، داعيا اياها الى التواصل مع الشركة الوحيدة في لبنان المختصة بصنع المتفجرات والديناميت لاستخدامها في تفجير الصخور والمقالع («الشركة اللبنانية للمتفجرات»)، او اعادة تصديرها الى بلد المنشأ. بحسب ما قاله الجيش، الكمية هائلة وضخمة، وهو لا يصنّع متفجرات بل يراقب صنعها واستخدامها. لا اصبع ديناميت ينفجر قبل علمه.
بيد ان شيئاً من ذلك، اخراجها من البلاد، لم يحدث لدى الجهتين الرسميتين المخولتين التعامل مع تلك الحمولة المصادرة وادخالها في احد عنابر مرفأ بيروت. كل شيء كان عادياً عندما قال طاقم باخرة تحمل علم مولدوفيا ان عطلاً اصابها يقتضي تعويمها على البر لاصلاحها، وهي تمر ترانزيت بلبنان حاملة شحنة نيترات امونيوم من مرفأ جورجيا الى مرفأ موزامبيق. اوجب التعويم افراغ شحنة النيترات ووضعها على الرصيف. من ثم بدأت المشكلة.
بسبب عدم تسديدها ديوناً مستحقة لشركتين، اولى بلغت 119 الفاً و396 دولاراً اميركياً اضافة الى مبلغ ملحق هو 11 الفاً و940 دولاراً، وثانية بلغت 23 الف يورو، امر قاضي الامور المستعجلة نديم زوين بالحجز على الباخرة وطاقمها، ومنع إبحارها رغم اصلاحها، من ثم قرر تخزين الحمولة الضخمة في مستودع خاص بحراسة الجمارك اللبنانية. اما طاقمها، فلم يُخلَ سبيله بقرار من القاضي زوين الا في الاول من ايلول 2014، فقصدوا بلادهم بعدما استمروا في الاشهر المنصرمة محتجزين داخل باخرتهم، المحتجزة بدورها. بمرور الوقت باعوا وقودها كي يتزوّدوا مؤناً. ظلت الباخرة راسية حتى 18 شباط 2018 عندما غرقت داخل حرم المرفأ.
منذ عام 2016 استمر تواتر المراسلات بين دائرة المانيفست والمديرية العامة للجمارك والقاضي زوين بغية بت مصير الاطنان المخزنة في العنبر 12 بلا طائل، الى ان إكتشف ان الباب رقم 9 للعنبر مخلوع، وثمة فجوة في الحائط الجنوبي، فيما لا حراسة على العنبر. تلك كانت اولى ايام الوصول الى انفجار القنبلة النووية الصغيرة الموقوتة، الراقدة في مرفأ بيروت.
في المرفأ خمسة اجهزة، اربعة امنية هي الامن العام (ختم سمات دخول ومراقبة الخروج) ومديرية المخابرات (مراقبة دخول/ خروج مواد مهربة او محظرة بما فيها المتفجرات) والجمارك (البضائع الداخلة/ الخارجة وتحصيل رسومها) وامن الدولة (اتخذت مقراً لها فيه منذ عام 2018) وادارة مدنية هي الهيئة الموقتة لادارة مرفأ بيروت واستثماره (مالكة الارصفة والعنابر والرافعات والآليات). لكل من هذه اختصاصها وصلاحيات ليس للاخرى التدخل فيها. بذلك حُصرت المسؤولية المباشرة بالجمارك وهيئة المرفأ. لم يتدخل الجيش للمرة الاولى – وهو غير ذي صلاحية – سوى في 10 تشرين الاول 2015 عندما كتب الى قيادته آمر مركز المرفأ في مديرية المخابرات يذكّر بالمواد الخطيرة المخزنة لسنتين خلتا. تحرّكت القيادة وطلبت الكشف على الاطنان من خلال خبيرة عيّنها قاضي الامور المستعجلة، فأبرز تحليل المختبر احتواءها نسبة خطرة من الآزوت (34،7%)، فراسل الجمارك الجهة المعنية بالاطنان المحتجزة. ثم كانت مراسلة 7 نيسان 2016. عندما كانت الجمارك تُسأل عن مصيرها، تجيب انها لا تتلقى اجوبة من قاضي الامور المستعجلة عن مراسلاتها. عند هذه النقطة ضاعت الطاسة: القضاء يقول انه يرد، والجمارك تنفي. إما القضاء لا يرد او مراسلات الرد اختفت. اللهم الا اذا كان الطرفان معنيين بالاخفاء ما دام لا مراسلات كافية موثقة. اما الحقيقة الثابتة، فهي ان القنبلة الموقوتة منذ عام 2013 لا تزال داخل العنبر 12 كأنها تنتظر ساعتها.
في 27 كانون الثاني 2020، طلبت المديرية العامة لأمن الدولة، رغم انقضاء قرابة سنتين على تمركزها في المرفأ، مراجعة القضاء في شأن الاطنان من غير التحقق من معرفتها بها قبل ذلك الوقت. بيد ان المراجعة تأخرت اربعة اشهر ويوم واحد، الى 18 ايار. حينذاك اجاب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس بعدم اختصاصه نظراً الى صدور قرار عن قاضي الامور المستعجلة في وقت سابق قضى بتخزين نيترات امونيوم في العنبر 12. بعد عشرة ايام، 18 ايار 2020، اجاب المدعي العام التمييزي غسان عويدات بعد مراجعته بالتواصل مع الهيئة الموقتة في المرفأ التي اجاب المعنيون فيها انها مخزّنة بقرار قضائي، ولا تخرج من العنبر سوى بقرار معاكس. انتهى الامر بتوجيه كتاب الى الهيئة الموقتة لادارة مرفأ بيروت واستثماره، يقضي بتأمين حراسة للعنبر 12 وتعيين رئيس مستودع وصيانة الابواب ومعالجة فجوة الحائط واقفال الابواب بإحكام. اختارت الهيئة الموقتة اهون سبل اقفال العنبر بتلحيم الابواب، ما يفترض انها شرارة احراق العاصمة وتدميرها.
كل ما حصل حتى هذا الوقت، ارسل به امن الدولة تقارير الى قصر بعبدا والسرايا، ما يعني ان رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب على علم بالقنبلة الموقوتة، من غير ان تتحرك السلطات السياسية لتدارك الكارثة الآتية طوال الاشهر المنصرمة. بذلك تتدرّج المسؤولية المباشرة من تحت الى فوق، بدءاً بالجمارك والهيئة الموقتة والقضاء صعوداً الى فوق، كي يمسي الجميع مسؤولين مباشرين.
اما التحقيق، فينتظر هو الآخر أوان تسييسه رغم الاجراءات الاخيرة. وقد يُعثر على خط احمر فوق بعض الرؤوس، ما دام بين المشتبه بمسؤوليتهم من ينتمون الى التيارات التي تضع نفسها فوق الشبهة. فيها مَن في السلطة، وفيها مَن يزعم انه في المعارضة.
اما اطنان القنبلة الموقوتة التي لم يُذكَر منها سوى ابواب العنبر 12، فلبثت الى ان حان موعد انفجارها بنصف بيروت.