خلف الحراك السياسي القائم من اجل التفاهم على مهمة الحكومة العتيدة قبل الاستشارات النيابية التي تقود الى مهمتي التكليف والتأليف، تجري ورشة اقتصادية ومالية كبيرة لإعادة النظر في سلسلة الاولويات التي تركتها نكبة بيروت. فقد فرض تفجير المرفأ اعادة نظر واسعة في سلّمها، يجب ان تحيي الاعتراف بخطورة الأزمة المتشعبة بين امنية وسياسية واقتصادية. فهل يعي المسؤولون مثل هذه الحقائق؟
لا يخفي عدد من الديبلوماسيين المعتمدين في لبنان ومعهم عدد من الخبراء في الشؤون المالية والإقتصادية، اعتقادهم منذ فترة طويلة رافقت ما بلغته الأزمة النقدية والمالية في لبنان من حدّة، انّه لا بدّ من انّ شيئاً ما يجب ان يحصل ليعي اللبنانيون، مسؤولون وقيادات من مواقع رسمية وسياسية وحزبية مختلفة، خطورتها وما يمكن ان تؤدي اليه، ما لم يتداركوا الأمر. فقد كان عدد منهم على إقتناع بأنّ المخارج والحلول ستبقى بعيدة المنال ما لم تصل الامور الى مرحلة يصحّ فيها القول المألوف «اشتدي يا أزمة تنفرجي».
بالطبع لم يكن أحد يدرك انّ النكبة التي حلّت ببيروت جرّاء انفجار «عنبر النيترات» بما حواه من مواد قادت الى التفجير «الهيروشيمي» قد يكون المحطة المنتظرة. فقد قادت الظروف المأسوية التي خلّفها الانفجار الى عودة الاهتمام الدولي بلبنان، من باب تقدير الأضرار التي خلّفها الانفجار في مختلف وجوه الحياة اليومية، من اقتصادية وبيئية وصحية واستشفائية وانسانية، تحاكي حياة معظم اللبنانيين، بعد احصاء الشهداء والمنكوبين من الجرحى والمصابين والأضرار النفسية التي لا يمكن إحصاؤها من اليوم، بفعل ما ستتركه هذه «اللعنة» من آثار سلبية ستلاحق البعض طوال ما تبقّى لهم من عمر.
على هذه الخلفيات، تتعدّد السيناريوهات والقراءات حول ما خلّفه الانفجار على اكثر من مستوى، يطاول مختلف وجوه حياة اللبنانيين والمقيمين على ارض لبنان، كما بالنسبة الى المهتمين بمستقبل البلاد، وما ترتبه النكبة من مسؤوليات دولية، لا بدّ للمجتمع الدولي من تقييمها والقيام بما تفرضه عليه واجباته الإنسانية والسياسية، على رغم من القطيعة شبه الشاملة التي كان يعاني منها اركان السلطة، التي كانت تعيش نوعاً من العزلة الدولية لم يعرفها لبنان في مرحلة من المراحل مهما عاد بهم التاريخ الى الوراء.
وبناءً على ما تقدّم، والى جانب الرعاية الدولية للجوانب الانسانية والاقتصادية والمعيشية والطبية والإغاثية التي استُدرج العالم اليها مرغماً، فقد توجّهت الأنظار الى اهمية احياء التفاهمات السياسية التي تحيي الامل في امكان قيام دولة ترعى مصالح ابنائها وتعيد بناء ما تهدّم وتضمن قيام المؤسسات الدستورية والمالية والأمنية بواجباتها تجاه ابنائها، بعد مرحلة من التفكّك التي جعلت فئة من اللبنانيين خارج اهتمامات اهل السلطة الذين تفرّدوا بـ»حكومة اللون الواحد» وزادوا امعاناً في تغطية تدخّلات بعض اللبنانيين في الأزمات الإقليمية والدولية، من دون ان يقدّروا او يزينوا قدرة لبنان على تحمّل تبعات المواجهات القائمة في المنطقة بين محورين كبيرين لا تتسع الأراضي اللبنانية لتردداتها الكبرى. فالمنطقة تعيش حالة من الغليان غير المسبوق، تنوء تحته كل قدرات اللبنانيين على تحمّل نتائجها، ان اراد البعض ان يكون طرفاً في اي من المحورين المتصارعين في المنطقة والعالم.
على هذه الصورة تُختصر القراءات الديبلوماسية للوضع في لبنان. فالانفجار الذي دوّى على الشاطئ الشرقي من المتوسط لم يصب لبنان فحسب، لا بل فقد كانت له تردداته في المنطقة والعالم. وهو ما دفع المجتمع الدولي الى التحرّك العاجل لتأدية دور انساني وأخلاقي، لا بدّ من القيام به والتعبير عنه بكل ما يرتأيه من اشكال التعبير والدعم. وان حَظي الشق السياسي الذي كان يعاني منه لبنان بجانب من الاهتمام، فانّ المخاطر تحوط به من كل جانب، ما لم يلاقِ اللبنانيون هذا الحراك الدولي بما يستحقه من اهمية، للإفادة من هذه «الرعاية الاستثنائية» لإنقاذ البلد مما كان فيه وما يتجّه اليه من انحلال للدولة ومؤسساتها.
ومن هذه الخلفيات، يتطلع المجتمع الدولي الى قصور وهزال فهم اهل السلطة لما يجري وخطورة ما حصل. وهو ما عبّر عنه اكثر من مسؤول دولي وديبلوماسي، اقدم على ما كان يجب ان تقوم به الدولة اللبنانية ومؤسساتها وبالإنابة عنها. فهي التي تفرّجت على ما تركه الإنفجار، وكأنّه من مهمة المجتمعين الدولي والاهلي، بعدما اعفى قسم منهم نفسه من المسؤولية عمّا حصل. فالتحقيقات التي وعدت الحكومة اللبنانيين بإنجازها في خمسة ايام، تجاوزت كل المراحل والمِهَل، بعدما ايقظت بعض الوقائع «غريزة» حماية الأزلام والأصدقاء من شرّ اي تحقيق يمكن ان يؤدي الى إدانة كثير منهم ومن مختلف الجهات والوجوه.
ومن هذه الملاحظات الدقيقة، تتطلع المراجع الديبلوماسية بقلق الى عدم فهم بعض المسؤولين ما عليهم القيام به من خطوات، «فعادت حليمة الى عادتها القديمة» كما يقول احدهم. وتراجعت الطروحات المتبادلة بين اهل السلطة، بعد التضحية بـ»حكومة مواجهة التحدّيات» الى ما قبل الأزمة النقدية والإنفجار «الهيروشيمي» في بيروت، وكأنّ البلد بألف خير. وانّه يمكن لأي كان، وخصوصاً إن ثبت لديه انّه قادر بقدرة قادر على التلاعب بالدستور والقانون، لفرض امر واقع جديد، ولو بُني على أطلال اوجاع الناس ومآسيهم ومستقبلهم.
وبناءً على ما تقدّم، يبدو واضحاً انّ كل ما حصل وما تسبّب به من عوامل جديدة قادت الى فرض اولويات جديدة، لم يفهمها اهل الحكم والحكومة بعد. والدليل، في اصرارهم على المعالجات التقليدية، التي قادت لبنان واللبنانيين الى ما هم فيه اليوم، غير آبهين بما تركته النكبة من آثار سلبية، لن تتوقف نتائجها عند ما ظهر منها الى اليوم. فآثارها الفظيعة غير المرئية لم تُرصد بعد، وسنحتاج الى فترة طويلة لرصدها وتقدير مخاطرها.
عند هذه الملاحظات يتوقف المراقبون الدوليون، ليوجّهوا تحذيرات شديدة اللهجة بطريقة غير مسبوقة الى المسؤولين اللبنانيين، ما لم يتداركوا الأمر في وقت قريب وضمن مِهل عاجلة، مخافة ان يتراجع الاهتمام الدولي بما حصل. فالتطورات الإقليمية المتسارعة قد تفرض على المجتمع الدولي القيام بمهمات طارئة، تخفف الزخم الذي حظي به لبنان عقب النكبة. وما لم يتدارك المسؤولون هذه الحقائق، فسيعود الحصار على البلاد والعباد مجدداً وفي وقت قريب، وهو ما يدفع اللبنانيين الى الإيمان بما يتحدث عنه المنجمون الذين يعدونهم بمزيد من المآسي، طالما انّ من بيدهم شؤون البلد لاهون عمّا هو مقدّر من مصائب قد لا توفرهم في مرحلة من المراحل. ولذلك يُطرح السؤال: فما انتم فاعلون وقبل فوات الأوان؟!.