Site icon IMLebanon

لكل اسم رمزية… لكل موت طعم

 

رالف وسحر وألكسندرا والياس… وعرسان قرطبا

 

 

رالف ملاحي، جو بو صعب، سحر فارس، الياس الخوري، جو نون، الكساندرا نجار، شربل كرم وشربل ونجيب حتي… اسماء أبكتنا، ضحايا وشهداء واجب عرفنا عنهم كل تفاصيلهم، ذقنا لوعة فقدانهم، شعرنا مع أهلهم وأقربائهم وأحبائهم، وكأننا نعرفهم جيداً. وكأن موتهم من نوع آخر… نتذكر كل الضحايا ونترحّم عليهم، وكأن لموت هؤلاء طعماً آخر في نفوس وأذهان اللبنانيين. فكيف يفسر علم النفس شعورنا هذا؟

 

لا تغيب لحظات الموت وآثار ومشاهد الدمار عن أذهاننا. وعلى الرغم من توالي الأيام لا تزال وطأة الانفجار تزعزع فينا شيئاً وكأنّ دقائق الخوف لا تنتهي ورائحة الموت تفوح وتفوح. وكأن اللبناني، لم يكفِه الضغط النفسي الذي يعيشه، جراء البطالة والفقر والكورونا والضائقة الاقتصادية والمعيشية، فأتى انفجار المرفأ ليقضي على ما تبقى من مناعتنا النفسية، خالقاً حالات اضطراب واضحة لدى المواطنين. فهل يستطيع اللبناني تحمل صدمات بعد؟

 

تؤكد المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية الدكتورة كارول سعادة أنّ “كلّ شخص يتعرّض خلال حياته لصدمات معيّنة، ولتجارب خارجة عن سيطرته، الا انّ ما تعرّض له اللبنانيون وتحديداً سكّان بيروت وضواحيها يخرج عن منطق الـ”trauma”، ويعتبر من أقسى وأصعب الصدمات الممكن أن يتعرّض لها الإنسان من ناحية الخوف، او الموت والقلق والألم”.

 

أسماء زعزعت مثالياتنا

 

توصيف هذه الحالة ليس غريباً عنّا، فمن المؤكد أنّ معظمنا يشعر بهذه العوارض، من دون أن يدرك مصدرها. وقد تكون “زحمة العرسان والملائكة” في السماء، أكبر سبب للتداعيات النفسية. فلم تعد “أعصابنا” قادرة على تحمل صور الضحايا المنتشرة بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، التي سلطت الضوء على موت “الشباب” بشكل خاص. فهل في موتهم رمزية خاصة؟ تشير د. سعادة الى أنّ “مواقع التواصل الاجتماعي، ساهمت في تعزيز معرفتنا ببعض الأشخاص اكثر من غيرهم، وضاعف اختيار الصور والتعليق عليها شعورنا بالاسى والحزن، فعشنا تفاصيل قصة كل شخص وكأنها تعنينا بشكل مباشر. فكلما عرف الانسان تفاصيل اضافية عن الضحايا كلما تفاعل معهم اكثر وأكثر”. وتضيف: “وكأن موت الضحايا الشباب جرح فينا بعض المثاليات، فكل ضحية جسدت رمزية معينة في عقلنا الواعي واللاواعي، وساهمت في جرح مثالياتنا وبترها، فشرعنا بألم مضاعف. “فراشة بيروت” ألكسندرا نجار ابنة الـ3 سنوات التي توفيت متأثرة بجروحها، أدمعت صورة مشاركتها في ثورة “17 تشرين” عيوننا جميعاً، فالكسندرا تمثل الطفولة والطهارة والمستقبل، كذلك مثلت في عقولنا مفهوم الثورة والامل في التغيير، والحلم بمستقبل افضل.

 

 

كأن صورتها حملت رسالة الناس الموجوعة، فنطقت بألم الحرية والموت والثورة والمستقبل. أمّا الشاب الوسيم رالف ملاحي، ابن الاربعة وعشرين ربيعاً، من فوج إطفاء بيروت، فتوقف الجميع عند وسامته وعينيه الزرقاوين، فمثل ابن عين الرمانة، مثال الحرية والصحة والشباب والجمال. و”عروس بيروت” الشهيدة البطلة سحر فارس (27عاماً) من فوج اطفاء بيروت، كانت بالنسبة لنا مثال الحب والمستقبل الواعد، وجذبت رواد مواقع التواصل الاجتماعي إذ كان من المفترض أن تصبح عروساً في الصيف المقبل، إلا أنها قضت في الانفجار المروع، ما جعل فارس حديث المواقع، ولا سيما بعد ان نشر خطيبها جيلبير قرعان رسالة مؤثرة على حسابه في فيسبوك. ناهيك عن عرسان قرطبا الثلاثة، أبطال فوج إطفاء بيروت: الرقيب شربل حتي والاطفائيان نجيب حتي وشربل كرم الذين قضوا في انفجار المرفأ اثناء قيامهم ورفاقهم بواجب إطفاء النار المشتعلة في العنبر 12.

 

 

وما أثّر بشكل واضح على اللبنانيين، أنّ صلة دم وروابط عائلية تجمع بين الشهداء الثلاثة. وهزّت صورة كارلن حتي كرم الجميع، من الذين حضروا المأتم ورواد مواقع التواصل الاجتماعي ومشاهدي شاشات التلفزة، فودعت زوجها وشقيقها وابن عمها في يوم واحد، فاختصرت صرختها وجع العالم كله، وكانت كافية لتزعزع فينا مثال العائلة والترابط والأمان. أمّا الشاب الياس الخوري (15 عاماً)، الذي فارق الحياة بعد أسبوعين قاوم فيهما الموت والوجع، رافضاً أن يغادر الحياة وهو لا يزال في مقتبل العمر، فهزت صورة رفاقه في مدرسة يسوع ومريم، وهم يحملون نعشه الأبيض في الوداع الأخير، رواد مواقع التواصل، الذين علقوا على سخرية القدر، فبدل أن يحمل الشباب شهاداتهم، حملوا رفيقهم الذي انتقل الى جوار الرب. وبالتالي جسّد موت الياس مثال ربيع الشباب والمراهقة، والطاقة وحب الحياة، كذلك جسد اصدقاؤه مثال الصداقة المجروحة”.

 

كوابيس… وعوارض مختلفة

 

يبقى ثقل الصدمة النفسية كبيراً جدّاً على من كان موجوداً أو قريباً من مكان الإنفجار ومن فقد عزيزاً على قلبه وكذلك على جميع اللبنانيين، وتعرف هذه الحالة بما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة أو “PTSD: post traumatic stress disorder”، وتختلف حدّة عوارضها بين شخص وآخر وبين تجربة وأخرى. وبحسب د. سعادة “من عاش لحظات الصدمة أكثر عرضة للمعاناة من هذا الاضطراب، وتظهر العوارض بعد فترة تتراوح بين أيام وأسابيع، سواء على الاطفال والشباب أو الاكبر سنّا. كما أنّ العوارض تكون اكثر وضوحاً لمن لديه في شخصيته استعداد في تطوير مشاكل نفسية اكتئابية او قلقية. وتظهر العوارض على الشكل الآتي: الشعور بإعادة التجربة، عيش ذكريات الماضي بشكل متكرر عبر الـ”flashbacks” أو الكوابيس، التأثير على القدرات الفكرية ما يخلق صعوبة في التركيز، التأثير على المزاج بطريقة سلبية فتهيمن الافكار السوداوية على الشخص، عدم القدرة على التركيز، وأوجاع نفس جسدية مثل الشعور بالصداع والدوخة وألم في الامعاء والحساسية… كلها عوارض تعرقل حياة الفرد الاجتماعية والعملية والعائلية والفكرية. وقد تكون تداعياتها خطيرة على حياة الفرد، اذا لم تعالج، وخصوصاً أنها قد توصل الى الانتحار. أما عن العلاجات فترتكز على مجموعات الدعم الممكن أن تساعد على مناقشة المشاعر لدى الأشخاص، مثل العلاج الجماعي والعلاج الشخصي المتمثل بالعلاج السلوكي والمعرفي الذي يشجّع على تذكر الحادثة والتعبير عن المشاعر للتخلص من هذه الصدمة وتقليل العوارض قدر الإمكان. وقد يكون العلاج الدوائي حاجة ملحة للحد من الحالات العصيبة والاكتئاب”.

 

لا توجد قسوة أكثر من سماع خبر وفاة من نحبّهم مهما كانت أعمارهم، فيكون الخبر صدمة كبيرة تؤثر على حياتنا، فكيف الحال اذا كان حادث الموت خارجاً عن الطبيعية، قتل احبابنا، وبتر مثالياتنا، ودمر عاصمتنا الحبيبة بيروت. رحم الله كل الضحايا وشهداء الواجب، آملين بمحاكمة عادلة لكل مسؤول عن هذا الحادث الأليم.

 

شهادة حي وشهادة بطل

 

من منا لم يسمع بالبطل جو طانيوس نون، ابن مشمش، المنخرط في فوج الإطفاء منذ العام 2018، من منا ينسى صورته أمام باب العنبر 12 المشؤوم وفي يده «شلف معدني» محاولا بواسطته فتح ذلك الباب البائس. كانت تلك آخر صورة لجو. وكم كان صعباً أن نسمع جملة «» بحِبّو….. أنا ولادي رفقاتي»، من والد محروق يحاول اظهار القوة من أجل زوجته وقلبه محطم ينتظر عودة ابنه الذي ابتلعته أنقاض المدينة. خسارة جو كانت كبيرة، كما كل رفاقه، كبيرة بحجم الكارثة، الكل بكاه، ناداه. إستفظغ رحيله المبكر عن هذه الدنيا وهو في عزّ شبابه وعطائه.

 

منذ أن وقعت نكبة بيروت، سارع شقيق جو، ويليام ، إلى مرفأ بيروت بحثاً عنه بعدما فقد الاتصال به. وكان قد صرح أنه لم يغب يوماً عن المرفأ منذ وقوع الانفجار، فوظيفته كمتطوّع في الدفاع المدني في بيروت أتاحت له النزول إلى مسرح الإنفجار والمشاركة في عمليات البحث عن المفقودين من بينهم شقيقه. وإلى جانب مشاهد الموت والدمار التي رآها في مرفأ بيروت، تحدّث ويليام عن عناصر تابعين لـ»حزب الله» يدخلون ويخرجون بحرية إلى المرفأ وكأنهم يبحثون عن شيء معيّن هناك. على الاثر تلقى الشاب المفجوع بموت شقيقه تهديدات من أحد المسؤولين في «حزب الله» حول هذه المعلومات التي أدلى بها عبر وسائل الإعلام. وكان ويليام قد أشار في حديث سابق الى أنه «لا يخاف منهم»، مضيفاً «خسرت شقيقي ولا أعتقد أن هناك خسارة أكبر تُضاهيها. كما أنّ القاصي والداني يعلم بأن مرفأ بيروت تحت سيطرة «حزب الله». يُدخل إليه ما يشاء من دون حسيب أو رقيب. وكثر داخل المرفأ أخبروني أن العنبر رقم 12 كان يدخل إليه عناصر تابعون لـ»حزب الله»، وأن هناك مسؤولاً رفيعاً في الحزب كان يتردد إليه بشكل دائم». ويليام قال ما لا يجرؤ الآخرون على قوله ، فهل سيؤخذ بشهادته في التحقيق بعدما أخذ الانفجار أغلى شقيق؟