بعد انفجار 4 آب، صارت إهراءات القمح في مرفأ بيروت دليلاً مزدوجاً على «عظمة» المبنى الذي حمى جزءاً من العاصمة، وعلى بشاعة الانفجار الذي هدم جزءاً منها وردم أجساداً تحتها وقضى على كلّ ما يحيط بها. أثير النقاش حول ضرورة إبقاء «المعلم» شاهداً «تاريخياً» يذكّر بجريمة الدولة بحقّ الشعب. وأتى كتاب وزير الثقافة والزراعة عباس مرتضى إلى رئاسة مجلس الوزراء، بتاريخ 18 الجاري، لـ«اعتبار الإهراءات من التراث الإنساني والحفاظ عليها» بالشكل الذي انتهت إليه بعد الانفجار، ليذكّي النقاش المفتوح. مصادر وزارة الثقافة أفادت «الأخبار» بأن الكتاب «جاء بناءً على اقتراح المدير العام للآثار، لكن تبيّن أنه يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء. وهو ما ليس متاحاً في ظل حكومة تصريف الأعمال»، علماً بأن السفير الكويتي في بيروت عبد العال القناعي أعلن قبل أيام أن بلاده مستعدّة لـ«إعادة بناء الإهراءات التي بنيت أساساً بقرض كويتي».
مدير الإهراءات أسعد حداد أكد أن الأولويّة «للكشف على أساسات الإهراءات وتخمين أهليّتها، وهو ما سيتولّاه على الأرجح خبراء تشيكيّون لأن الشركة التي قامت بالبناء تشيكية»، لافتاً إلى أن «أساسات الإهراءات تمتد إلى عمق 16 متراً، فيما أحدث الانفجار الذي وقع على مسافة 50 متراً منها فجوة بعمق 42 متراً».
والإهراءات حرم مستقلّ عن المرفأ تتبع إدارته لوصاية وزارة الاقتصاد، وهي تضمّ 104 صوامع كانت تستوعب 125 ألف طن من الحبوب، من ضمنها ما أضيف إليها (نحو 20 ألف طن) عام 1994 في أول ترميم لها بعد الحرب. وقد بدأ تشييدها عام 1968 وافتتحت بعد عامين، بقانون وقرض من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، من تصميم وإشراف «مجموعة بوهلر» السويسرية وتنفيذ شركة «برومستاف» التشيكوسلوفاكية». قبل الانفجار الكبير، بحسب حداد، «كان هناك مشروعان مطروحان، إما توسيع الإهراءات وزيادة قدرتها الاستيعابية بـ 30 ألف طن إضافيّة، وقد أعددنا الخرائط وكنا نبحث عن التمويل، أو الحفاظ على الهيكل وترميمه وطلاؤه».
استفتاء آراء المعماريّين حول أهميّة ترك المعلم كشاهد للذاكرة والتاريخ يبيّن تفاوتاً في الآراء. بالنسبة إلى المعمار فضل الله داغر، الأهم بالدرجة الأولى هو «عدم محو آثار الكارثة، بل الحفاظ على هيكل الإهراءات حالياً إلى حين البحث بمصيرها، بينما الناس لا يزالون يبحثون عن سقف يؤويهم، وقد اعتدنا إزالة آثار الأحداث بسرعة وكأن شيئاً لم يحدث». هذا حدث بعد الحرب مع إعادة إعمار بيروت، «كان وسط بيروت مكاناً يضجّ بالحياة، وجرى محو التاريخ بعد الحرب، تغيّر المكان وجرى طمس هويته وذاكرته. يفترض أن المنطق تغيّر ولا بدّ من مكان يذكّر بجريمة المنظومة السياسيّة التي لا يمكنها الهروب إلى الأمام وإعفاء النفس من الحدث، عبر اقتراح وجهة الإهراءات أو الاستفادة من الهبات القادمة لإعادة إنشائها وتعويم المنظومة». وأكد ضرورة «الإبقاء على مكان للذاكرة، نصب تذكاري، يرمز إلى الكارثة الإنسانيّة التي حلّت في 4 آب. سواء هيكل الإهراءات أو أي فكرة بديلة، وطرحها عبر مسابقة وطنيّة وليس عالميّة لأن الموضوع يخصّنا. هذا مسرح جريمة سببه الإهمال والإجرام، لا يمكن البدء بالتفكير في إزالته ولمّا تنتهِ أعمال رفع الأنقاض أو الجثث».
يختلف الأمر، بالنسبة الى رئيس جمعية تراث بيروت سهيل منيمنة الذي يعتبر «أن الجمعية، بالتواصل مع باحثين ومؤرخين، ترفض فكرة الإبقاء على الإهراءات لعدم التذكير بالكآبة، وخصوصاً أن المكان واسع جداً، ويمكن الاكتفاء بنصب تذكاري للحدث». ولفت الى تجربة «بيت بيروت» (مبنى بركات) الذي «يفتح مرة في الشهر لأجل المعارض، أو ساحة الشهداء التي تحوّلت إلى باركينغ للسيارات، أو أسواق بيروت المهجورة».
هذا مسرح جريمة سببها الإهمال ولا يمكن التفكير في إزالته ولمّا تنتهِ أعمال رفع الأنقاض والجثث
المعمار إيلي نجم يرى أن «من الضروري إعادة النظر بكامل المرفأ وفق مشروع جديد، وصولاً إلى ضبية ومن ضمنها مكب برج حمود ومشروع لينور، واتصال المرفأ بمشروع الأوتوستراد العربي ومشروع النفق إلى البقاع الذي قد يؤدي إلى إنشاء منطقة حرة في البقاع ومستوعبات تخزين… ما ينفي الحاجة إلى كل المساحة التي كانت تشغلها العنابر التي دمّرت». الهدف من الفكرة هو «وضع مشاريع متكاملة بدلاً من البحث في إعادة إعمار سريعة من دون نظرة إلى المستقبل والبيئة المحيطة بالمكان. والأهم هو رفض منطق إعادة الإعمار التجاري، بل التفكير عبر مسابقات وطنية أو عالميّة في مكان يخلّد الذكرى كبقاء الإهراءات شاهداً على الجريمة، ونحن نعرف أن النصب التذكاري هو موقعيّة الحادث ولا يقتصر على تمثال. كلّ ذلك مع ضرورة إفساح المجال للناس، سواء عبر حدائق أو سواها، لزيارة المنطقة وخلق رابط معها، وتحسين البيئة المحيطة والنسيج الاجتماعي ضمن المناطق المتضرّرة كي لا تتكرّر قطيعة المحيط الاجتماعي مع وسط بيروت بعد إعادة إعماره».
المهندس المعماري جورج بستاني يختلف مع فكرة ترك الإهراءات بوضعها الحالي، «لأن بقاء الدمار يحيل مستقبلاً إلى أن بيروت لم تتعمّر، وأن الحدث هو نتيجة إهمال وفساد، ولا سيّما أن أسبابه لا تزال ملتبسة وهو حدث واضح مثل اعتداء دولة أخرى أو حرب أهليّة. كما أن الصوامع تحتلّ جزءاً كبيراً من المرفأ». ويلفت إلى «أن الإبقاء عليها قد تنحرف الرسالة منه مع الأجيال القادمة، بسبب التعقيدات التي تبعت الحادث. الصوامع تشير إلى فترة جميلة في ذاكرتنا، وهي نهاية الستينيات، ولا أحبّذ تركها كنصب تذكاري، لكنّ النقاش يجب أن يُفتح حيال إعادة بناء الإهراءات بشكلها الحالي أو لا، مع البحث في ضرورة إنشاء منطقة وصول للناس مع مدخل مستقلّ إلى المرفأ».