منذ أيّام خَلَتْ (وأن صحّت المعلومات) بعث المحقق العدلي في فاجعة تفجير المرفأ، القاضي الرئيس فادي صوّان المحترم، بِرِسالة إلى مجلس النوّاب، يُطالبه بموجبها بتحمُّل المسؤولية، والقيام بما يراه مُناسبًا في حق رؤساء حكومات ووزراء تعاقبوا على وزارات العدل والمال والأشغال، قد تكون هناك شبهة إهمال في حقّهم، أدّت إلى كارثة الرابع من شهر آب الفائت.
والمقصود بهذه الرسالة، الطلب من مجلس النواب، وعملاً بأحكام المادة /70/ من الدستور، أن يُبادر بالإجراءات اللازمة لإتهام مَنْ سَبَقَ ذكرهم، بالإخلال بالواجبات المُترتّبة عليهم.
مما يُفيد، أنّ حضرة المحقق العدلي، توصّل إلى إقتناع بأنّ هناك إهمالاً وإخلالاً من قِبل هؤلاء بالواجبات المترتّبة عليهم، أدّيا إلى كارثة الرابع من شهر آب الماضي، وبأنّ المجلس الأعلى لمُحاكمة الرؤساء والوزراء، والمنصوص عليه في المادة /80/ من الدستور، هو المرجع الصالح للمُحاكمة.
لا شكّ في أنّ الإهمال والتقصير والإخلال بالواجبات المترتّبة على هؤلاء، ثابتة وأكيدة.
لكن كيف للمُحقّق العدلي (الذي نحترم ونجّل) أن يعتبر، أنّ جرائم الإهمال والتقصير هي من الجرائم الوظيفية، وليست من الجرائم العادية، حتى يخلُص أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المرجع الصالح للمحاكمة؟
تاريخ ملاحقة الوزراء حافل وطويل، إبتداءً من العام /1989/، حيث لوحق معالي الوزير الأستاذ جوزف الهاشم، والذي كان وزيرًا للإتّصالات من العام /1984/ حتى العام /1988/ بِجُرم إخلال بالواجبات الوظيفية، حيث خَلُص يومها قاضي التحقيق الرئيس جورج غنطوس وخلافًا للمطالعة إلى إعتبار مُلاحقته من إختصاص القضاء العادي. لكن الهيئة الإتّهامية وفي تاريخ 18/12/1989 فسخت القرار، وصدّقت محكمة التمييز قرار الهيئة الإتهامية تحت رقم قرار 31/1991 تاريخ 6/5/1991، وأُقفِل الملف حينها.
من بعدها، كانت ملاحقة الأستاذ جميل كبي (كان وزيرًا للصحة العامة بين عاميّ /1990/ و/1992/ في حكومة الرئيس عمر كرامي)، الأستاذ عادل قرطاس (كان وزيرًا للزراعة بين عاميّ /1992/ و/1995/ في حكومة الرئيس رفيق الحريري). حيث أصدر المدّعي العام المالي يومها الرئيس أحمد تقي الدين قراره، بإعتبار الجرائم المنسوبة إليهما جرائم وظيفية، وليست من إختصاص القضاء العادي.
ومِن ثُمّ، كان ملف الوزير السابق شاهيه برسوميان، والذي كان يشغل منصب وزير النفط (ملف الرواسب النفطية) حيث أصدر حضرة قاضي التحقيق سعيد ميرزا قراره في 9/3/1999 مُعتبرًا أفعاله من إختصاص القضاء العادي. وصدّقت الهيئة الإتهامية هذا القرار في 12/3/1999، وصدّقت محكمة التمييز قرار الهيئة الإتهامية في 24/3/1999، معتبرةً أنّ صلاحية مجلس النواب في المحاكمة ليست حصرية، وفي إستطاعة القضاء العادي ممارستها، وتحجب عنه في حال مارسها مجلس النواب (علمًا، أنّ هذا الرأي إجترحه القاضي الرئيس مارون زخور في قراره تاريخ 18/12/1989). وفي الختام، قرّرت محكمة الجنايات في 16/12/2002 عدم صلاحيتها لإستكمال النظر في الدعوى، ولم يُميّز القرار.
وبعد ذلك، كان ملف الوزير فؤاد السنيورة والذي شَغَلَ منصب وزير المال (ملف محرقة برج حمّود)، حيث خلُص قاضي التحقيق إلى إعتبار ما أقدم عليه «الوزير السنيورة» من إختصاص القضاء العادي، وصُدّق القرار من الهيئة الإتهامية، أما محكمة التمييز الجزائية وبناءً على إستدعاء تمييزي تقدّم به وكلاء الوزير المدّعى عليه، أصدرت قرارها بإحالة القضية إلى الهيئة العامة لمحكمة التمييز، للفصل النهائي في خصوص الصلاحيات، بقرار مبدئي وحاسم (نظرًا للقرارات القضائية المتناقضة والتي صدرت في ملفّات عدّة).
وفي 27/10/2000 أصدرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز قرارها النهائي، الذي وضعت فيه تعريفًا صريحًا للجرائم الوظيفية، وخلُصت إلى إعتبار الجرائم تلك من إختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، أما كل ما يخرُج عن هذا التعريف، يدخل مباشرةً في صلاحية القضاء العادي.
وبالتالي، وإستنادًا إلى هذا القرار المبدئي، قرّرت محكمة التمييز الجزائية (الغرفة العادية) في 16/11/2000 عدم صلاحية القضاء العادي لمتابعة النظر في الإدعاء. وهكذا جرى في ملف الوزير علي عجاج عبدالله، والذي كان يشغل منصب وزير الزراعة (ملف الأبقار) حين أصدرت محكمة التمييز الجزائية قرارها في 7/6/2004، مُستندةً إلى قرار الهيئة العامة في 27/10/2000.
وبالعودة إلى قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز في 27/10/2000، يتبيّن جليّاً، أنّ الهيئة العامة تبنّت نظرية الأفعال التي يمكن فصلها عن الوظيفة (les actes detachable) والتي إعتمدها القانون الإداري الفرنسي، ومفادها، أنّ الخطأ الشخصي هو الفعل الذي يظهر الإنسان بضعفه وأهوائه وقلّة إحترازه (كما عرّفها الفقيه الفرنسي «LAFERRIERE»).
مما يُفيد، وإستنادًا إلى قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز، أنّ أي فعل يُنسب إلى أي رئيس حكومة أو أي وزير، خلفيّته «قلّة إحتراز» يُعتبر جُرمًا عاديّاً وليس وظيفيّاً على الإطلاق.
ونطرح السؤال، أليست التهمة والمُساقة في حق مَن صار تحديدهم في كتاب حضرة المحقق العدلي، الإهمال والتقصير وقلّة الإحتراز؟؟؟
ولما كان من الثابت أنّ ملاحقة هذه الأفعال، وسندًا لقرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز في 27/10/2000، هي من إختصاص القضاء العادي، وليس من إختصاص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إذًا لماذا توجيه هذا الكتاب إلى مجلس النوّاب؟
مما يُفيد، أنّه كان يقتضي على حضرة المحقق العدلي (مع الإحترام المُطلق لشخصه) جلب هؤلاء إلى التحقيق، والتحقيق معهم، والإدّعاء بحقّهم، وإحالتهم إلى المجلس العدلي (من دون الحاجة مثلاً الى توقيفهم). عندها، يحّق لهؤلاء أن يتقدّموا بدفوعهم الشكلية «بعدم الإختصاص» إلى جانب المجلس العدلي، الذي يملك صلاحية البتّ بهذا الخصوص.
أما توجيه هذا الكتاب إلى جانب المجلس النيابي، فإمّا يُشكِّل هروبًا من المسؤولية، ورميٌ للكرة في أحضان السُلطة التشريعية. وإمّا تهريبًا (ولو بغير قصد) لمسؤولين وفاعلين ومجرمين من وجه العدالة، مع الإشارة الى أنّ الإدعاء بوجوههم وإتّهامهم، في حاجة إلى غالبية الثُلثَيْن من مجموع أعضاء المجلس النيابي، وهذا الأمر مستحيل دون أدنى شكّ.
لا يزال رهاننا على شخص المحقق العدلي، ونزاهته وإستقامته، وجرأته وعِفّته. ولا تنسى يا صديقي (والذي أفتخر بصداقته) أنّ «الحق يعلو ولا يُعْلى عليه»، وثِقتنا بك كبيرة وعظيمة.