لا سجال في لبنان خارج الحسابات، وان بدا إبن ساعته. والسجال الدائر حالياً في مثلث السياسة والقضاء والطائفية أبعد من ان يكون ثرثرة فوق سطح أزمة عميقة. هو، حتى في الشكل، يطغى على هموم الأزمة، ومعركة الحكومة التي لا تولد، والموضوع الأساس وهو الجريمة والعقاب في تفجير المرفأ وبيروت. أما في المضمون، فإنه فصل آخر من فصول كتاب لا ينتهي بالنسبة الى فريقين: فريق يمارس اللعب بالنظام، وفريق يمارس اللعب بالبلد. وما يضيف الى بؤس الحسابات، ان الاول لا يستطيع تغيير النظام نحو الأفضل ولا منع التدحرج نحو الأسوأ، والثاني لا يستطيع وليس مسموحاً له تغيير جوهر البلد.
لكن ما تفعله التركيبة السياسية على طريق اللعب بالنظام والبلد هو إكمال نظرية خطيرة بنظرية خطرة. الأولى هي تكريس السلطة للأقوياء في طوائفهم. والثانية هي اعتبار أن المواقع الرئاسية للمذاهب لا للأشخاص.
تجربة السلطة للأقوياء قادت الى “الإنحباس السياسي”: لا رئاسة، ولا حكومة، ولا بدائل، اذا اختلف هؤلاء. ضرب التعددية داخل كل طائفة، وتسخيف التعددية الديموقراطية، وإلغاء مفهوم الانتخاب من اجل نوع من “اللوياجيرغا” على الطريقة القبلية في أفغانستان.
وتجربة المواقع للمذاهب لا للاشخاص تعطل الحكم والمحاسبة والمسؤوليات. فالشخص يصبح محصناً تحميه مرجعيات المذهب، وترى في أية مساءلة له على خطأ أو إهمال أو فساد “اعتداء” على المذهب. والحكومات التي يسمي كل واحد من هؤلاء وزراء مذهبه فيها من دون مشاركة في الحصص هي “متاريس” حول طاولة واحدة تطلق النار غب الطلب من قادتها.
والسؤال هو: الى أين يقودنا التصرف على أساس ان رئاسة مجلس الوزراء مقام سني، ورئاسة المجلس النيابي مقام شيعي، ورئاسة الجمهورية مقام ماروني؟ أين المقام الوطني؟ وماذا يعني الرد على خطأ بخطأ؟ المحقق العدلي انتقى مسؤولين محددين لإستجوابهم كمتهمين بالإهمال والتقصير في جريمة المرفأ، بدل شمول كل المسؤولين الذين علموا بوجود الأمونيوم وخطورته. والرد كان رفض قرار المحقق وإندفاع المرجعيات السنية الى اعتبار أن الرئيس حسان دياب “خط أحمر”، والحديث عن مؤامرة على “مقام رئاسة الوزراء”. وهذا بالطبع ما فعلته المرجعيات المارونية حيال المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، والمرجعيات الشيعية تجاه الاقتراب من رئيس المجلس النيابي. ومرحبا سلطة ودولة ودعوات من مواقع طائفية ومذهبية الى دولة مدنية.
وما أكثر المقامات العليا وأقل القامات العالية. فالبلد في حرب أهلية باردة تخدم التركيبة السياسية الحاكمة والمتحكمة، وتزيد من قسوة الأزمات التي صنعتها على اللبنانيين وجعلت 55% منهم على خط الفقر و23% تحت خط الفقر، حسب دراسة “الإسكوا”. ونحن أسرى قامات واطئة يصح في كثير من أصحابها المثل اليمني القائل: “يرعى مع الرعاة ويأكل مع الذئاب”.