تُطرح فرضيات عديدة حيال سبب انفجار المرفأ: اعتداء إرهابي، فعل فاعل للتغطية على سرقة، إهمالٌ غير مسبوق أدى إلى وقوع الانفجار الكارثي… لم تُستبعد أي فرضية بعد، كما لم يُحسم إذا ما كان وصول نيترات الأمونيوم إلى لبنان صدفة أو مدبّراً، ولا إذا ما كان بقاؤها في المرفأ سبع سنوات مؤامرة لتمرير صفقة فساد أو إهمالاً متمادياً.
لكنّ أياً يكن السبب، فإنّه لا يُبرّئ المؤسسة العسكرية التي يُحتّم عليها واجبها إزالة خطر كان جاثماً في مرفأ العاصمة طوال سبع سنوات، خصوصاً أنّ هذا الإهمال، من المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية والموظفين المدنيين والأمنيين، تسبب بنكبة ألمّت بالعاصمة، وأدى الى سقوط نحو ٢٠٠ شهيد وإصابة الآلاف وفقدان العشرات.
عُيِّن القاضي فادي صوّان قاضياً للتحقيق في المحكمة العسكرية، بموجب المرسوم الرقم ١٤٦٥ (بتاريخ ٦ آذار ٢٠٠٩)، وكان على تماس مع المؤسسة العسكرية، بقيادتها السابقة والحالية، طوال أحد عشر عاماً، قبل أن يُعيَّن محققاً عدلياً في نكبة بيروت. وتولّت الشرطة العسكرية، إلى جانب فرع المعلومات والمباحث المركزية، التحقيق بإشراف النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمحامي العام التمييزي غسان خوري قبل أن يتولى صوّان التحقيق العدلي.
إذاً، الشرطة العسكرية وقاضي تحقيقٍ عسكري يتوليان التحقيق في قضية انفجار ما كان ليقع لو تعامل ضباط من الجيش وقيادتاه السابقة والحالية بمسؤولية حياله. المسؤولية الأولى تقع على عاتق الجيش إلى جانب القضاء، وتليهما الجمارك ولجنة إدارة المرفأ والوكيل البحري وبقية الموظفين. والسبب أنّ الجيش وحده من يدرك، أكثر من أي موظف مدني، الخطورة الشديدة للنيترات وما تمثّله من تهديد. لذلك تُعتبر المؤسسة العسكرية، بقيادتيها السابقة والحالية، مشتبهاً فيها في المسؤولية عن وقوع الانفجار، إذ إنّ أولى مهام الجيش حماية البلاد والدفاع عنها في وجه الأخطار التي تتهدّدها. ونيترات الأمونيوم، بتقدير الجيش نفسه وتقارير أمنية وردت إليه، أحد هذه الأخطار، علماً بأن في صلب مهام الجيش التحري عن وجود هذه الكمية من المواد الأولية التي تدخل في تصنيع المتفجرات، والتي كان تنظيم «القاعدة»، مثلاً، يستخدمها لزيادة عصف التفجيرات التي يُنفّذها، مع الأخذ في الاعتبار وجود ثغرة في الجدار الجنوبي للعنبر الرقم 12 ما يُتيح السرقة منها، بحسب تقرير أمن الدولة، فضلاً عن وجود أكثر من تقرير أمني وتقرير خبيرة كيميائية عن مدى خطورة هذه المواد. وهذا كان يفرض على مديرية المخابرات التصرّف لإزالة هذا الخطر.
واللافت هنا أن قيادة الجيش، بدلاً من اتخاذ أي خطوة لنزع الفتيل من المرفأ، قررت التصرف كـ«دليل تجاري» بين الجمارك وشركة تجارية؛ فقد برزت في هذا الملف مراسلة جوابية كان رئيس الأركان السابق اللواء وليد سلمان (وقّعها نيابة عن قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي) بعث بها إلى المدير العام السابق للجمارك، شفيق مرعي، تبلغه فيها القيادة أنها ليست بحاجة إلى مادة نيترات الأمونيوم البالغ وزنها ٢٧٥٥ طناً. واقترحت على الجمارك «مراجعة مالك الشركة اللبنانية للمتفجرات مجيد الشماس لتبيان إمكانية الاستفادة من المادة المذكورة في حال عدم الرغبة في إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها». اللافت، أيضاً، أن كتاب سلمان، المؤرخ في 7/4/2019، يشير إلى وجود مراسلة سابقة بين الجيش والجمارك بتاريخ 19/11/2015.
لم يستشعر المحقق العدلي الحرج. قد يكون ذلك حقاً مبرراً له طالما أنّه لم يُبدِ أيِّ ميل. لكن مسار التحقيق الذي سلكه شابه الارتياب، إذ إنّه لم يقترب من ضباط قيادة الجيش، لا السابقة ولا الحالية، رغم أنّ المسؤولية الجنائية تأتي في المقدّمة. جلّ ما قام به بعد حملة إعلامية شُنّت ضده، أنه رضخ بخجل فاستدعى سلمان، لكن بصفة شاهد.
انطلاقاً ممّا سبق، على المحقق العدلي إعادة تصويب التحقيق أو التنحّي استشعاراً للحرج، إذا كان لا يملك جرأة استدعاء قيادتي الجيش كمشتبه فيهما في الإهمال الجنائي الذي أدى إلى حصول الانفجار. وعليه أيضاً، سواء مباشرة أم عبر مجلس القضاء الأعلى، أن يخرج الى العلن ببيان مفهوم لا يُشبه البيانات السابقة المشفّرة، ليُقدم أجوبة إلى الشعب اللبناني الذي ينتظر منذ خمسة أشهر، ليجيب عن أسئلة لا أجوبة عليها حتى اليوم: هل جاءت النيترات إلى لبنان بالصدفة أم بفعل فاعل؟ ما هي مسؤولية مالك السفينة والقبطان والطاقم والوكيل البحري؟ من يتحمّل مسؤولية تعويم السفينة ونقل النيترات إلى العنبر الرقم ١٢، وهل عُوّمت السفينة لغاية في نفس أحدهم أم أنّ النيترات نُقلت لأن حال السفينة كانت مُزرية فعلاً؟ كما عليه أن يُحدد المسؤوليات الإدارية والأمنية لجهة كشف دور الموظفين في المرفأ والمديرَين العامين للجمارك، السابق والحالي، شفيق مرعي وبدري ضاهر، ورئيس لجنة إدارة المرفأ حسن قريطم. وأخيراً عليه أن يُخبر الرأي العام عن دور القضاء في ظل اقتناع بوجود تقصير قضائي فاضح يرقى إلى مستوى الجرم الجزائي.
الا أن الأهم من كل ذلك، عليه أن يخبرنا عن مسؤولية الجيش. مرّت خمسة أشهر من دون أن يستدعي المحقق العدلي قائد الجيش السابق أو قائده الحالي جوزيف عون، لأن الجيش ليس سمساراً أو غرفة تجارة وصناعة تقترح شركة لبيعها النيترات، بل هو المسؤول الأول عن الأمن، وعن التعامل مع قنبلة موقوتة انفجرت بعد سبعة أعوام.