IMLebanon

جريمة تفجير بيروت: حصار التحقيق!

 

بات التحقيق في التفجير المرعب الذي دمر مرفأ بيروت تحت الحصار، رغم أنه أتى على نصف العاصمة، وأحدث رضات ومصائب سيمر الوقت الكبير قبل خروج الناس منها! هناك استقتال من القوى النافذة في الطبقة السياسية على تعطيله، ومنع ملاحقة السياسيين الذين أثبتت الاستنطاقات الأولية شبهة عليهم، فأعلنوا التذرع بحصانات نيابية من جهة، ومن الجهة الأخرى استغلوا التذرع بالإغلاق الواسع النطاق الذي أوجبه التفشي الخطير لوباء «كورونا»… الأمران وفرا الحجج لـ«وضع القيود» على أخطر مسارٍ قضائي في جريمة هي الأكبر في تاريخ لبنان، وربما بين الأكبر عالمياً.

في الظاهر تبدو عناصر هذا الحصار مقنعة، رغم تزامنها مع افتضاح جوانب عديدة من شأنها أن تنير التحقيق وتفضي إلى الحقيقة، فلا تسجل هذه الجريمة ضد مجهول. أبرز هذه الجوانب ما افتضح عن الجهات الحقيقية المالكة لشحنة الموت، والخيوط التي تتالى كشفها، فهي تضيف الكثير من المعطيات والأبعاد والعمق لجوانب الاستباحة الإجرامية للبنان، الذي تم تحويله قسراً إلى حديقة خلفية لإسناد حرب الاقتلاع والإبادة التي شُنت ضد الشعب السوري، وتدفيع اللبنانيين المزيد من أثمان مخططات إقليمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

قبل 3 أسابيع كشف النائب السابق وليد جنبلاط أن شحنة الموت تعود للنظام السوري، وأعلن أن وصول السفينة «روسوس» إلى بيروت (أكتوبر/ تشرين الأول 2013) يعود إلى تعذر نقل «نيترات الأمونيوم» التي استخدمت في تصنيع البراميل المتفجرة، من المرافئ السورية إلى الداخل. كانت معركة حمص في أوجها والطرق مع الساحل مقطوعة عسكرياً، فيما هي مفتوحة بين بيروت ودمشق! وتلاحقت معطيات موثقة كشفت الجهة المالكة لشحنة الموت، وهم ثلاثة من «التجار» الروس – السوريين، جورج حسواني وجهاد ومدلل خوري الخاضعين للعقوبات الدولية منذ عام 2014، بصفتهم شركاء نظام الأسد ومن مموليه. واستمر كتمان هذه الحقيقة 7 سنوات، فيما المفترض أن تكون معرفة الملكية من أسهل الأمور على المسؤولين عن مرفأ بيروت من جمارك وإدارة وأمن!

إذن التحقق من المالكين الفعليين لشحنة «نيترات الأمونيوم» والدوافع والشركاء بات ممكناً، والمسألة ليست نظرية، فهناك إمكانات دولية يمكن الإفادة منها في توفير إمكانات مادية ليست متاحة أمام التحقيق اللبناني، أبرزها التحقيق الفرنسي في التفجير، الذي أودى بحياة مواطنين فرنسيين وجرح أكثر من 40 من عناصر قوات اليونيفيل الفرنسيين، وقد يكون هذا التحقيق بين أبرز الضمانات للوصول إلى العدالة، لأن من شأنه الإضاءة على الكثير من الجوانب اللبنانية. المقصود هنا أنه يوفر المفتاح للكشف عن الشركاء اللبنانيين لتجار الموت، ما سيسهل معرفة كامل المتورطين، ومواقعهم ومسؤولياتهم، لكن لا ينبغي استبعاد تعرض التحقيق إلى الكثير من محاولات إدخاله في دهاليز الانقسامات اللبنانية لعرقلته.

هنا تبدو العودة مفيدة إلى زمن حدوث الكارثة غير المسبوقة. يومها سارع «حزب الله» بلسان أمينه العام للتبرؤ، وكذلك التبرئة الفورية لإسرائيل، حتى إنه كاد يقول إنه لا يعرف موقع المرفأ (…) ورفض الاستعانة بتحقيق دولي، وهو الأمر الذي لاقاه إليه رئيس الجمهورية متذرعاً بأن لبنان لا يتحمل إطالة الوقت في التحقيق (…)، ولفت الانتباه أن النائب جبران باسيل طلب على الفور معرفة كيفية حصول التفجير، لتتبلور معالم الضغوط الهادفة إلى حصر التحقيق بخطأ إداري من هنا أو إهمال من هناك! ولحظة إعلان المحقق العدلي وجود شبهات بمن هم أصحاب القرار من سياسيين وأمنيين، حدثت الانتفاضة من جانب منظومة الحكم، وبات كل طرف مرجعاً في التحقيق الجنائي، وقاضياً يوجه قاضي التحقيق العدلي!

كثيرة هي الأسباب التي تفرض عودة إلى الوراء، منها مثلاً كيف صدف أن وزارة الطاقة (كان الوزير باسيل) كانت تريد شحن معدات تنقيب إلى العقبة في الأردن فطلبت هذه السفينة بالذات؟ وكيف صدف أن صاحب السفينة لم يدفع أجور البحارة، فكانت الذريعة أنهم سيتقاضون أجورهم من شحنة المعدات هذه، فاتخذت وجهة مرفأ بيروت؟ وماذا لدى شركة بارودي للمحاماة التي تقدمت بادعاء حجز السفينة باسم موكل له ديون عليها، تم الحجز ولم تُتابع الدعوى فمن هو الموكل؟ وكيف صدف أن المحامي نجل وزير الأشغال غازي زعيتر، ووزارة الأشغال أبرز الجهات المسؤولة عن المرفأ؟ وما المعطيات التي وضعت أمام قاضي الأمور المستعجلة لحجز السفينة، ولاحقاً الأمر بتفريغ الحمولة وتخزينها في العنبر «رقم 12» وكان ذلك في 27 أبريل (نيسان) 2014 بعد وصولها بأكثر من 6 أشهر! وأين كان الجيش المعني عن إدخال موادٍ متفجرة تفوق المسموح به؟ وما الدور الحقيقي لمن يملك القرار: «حزب الله» المسيطر على أكثر العنابر والأرصفة؟ ومن أسكت كل هذه الجهات؟ كبيرة هي الشبكة ذات الصلة ومتشابكة، لكن مفاتيح حلِّ ألغازها بدأت بالظهور!

لقد أصاب تفجير المرفأ بيروت بالصميم، لجهة ما نجم عنه من إبادة جماعية ودمار، وخسائر لاحقة على الدمار، وتداعيات ديموغرافية آخذة في الاتساع من المرجح أن تكرس تأريخاً جديداً لعاصمة لبنان ما قبل 4 أغسطس (آب) وما بعده! ولأن التداعيات ستكون بالغة الخطورة لما سينجم عن محاصرة التحقيق، فإن الخروج من هذه الحلقة أمر فوق الضرورة، وآثاره أبعد بكثير من حجم مسألة إحقاق العدالة لأنه سينعكس بقوة على كلِّ مسارات الأزمة اللبنانية التي ارتهنت البلد بعد نهبه وإفقاره وحولته إلى مجرد ساحة وظيفتها خدمة مشاريع الآخرين بتكبيده وأهله أثماناً لا طاقة لهم بها! واليوم بالذات يتضاعف هذا التحدي، مع إعلان طهران اعتزامها إطلاق مشروع هو قيد الإعداد في البرلمان الإيراني لـ«إقامة معاهدة دفاعية أمنية» تضم مختلف الدول الخاضعة إلى «محور المقاومة» والذريعة «درء الخطر المتأتي عن أي اعتداء إسرائيلي»! أي مزيد من خطوات الاستباحة وانتهاك سيادة لبنان وربطه بالمشروع المستحيل «إيران الكبرى».

الشرط الشارط الآن لكسر هذا الحصار، وكسر الحلقة التي وضع فيها البلد، يكون في تأمين احتضان التحقيق، والأدوار هنا موزعة أولاً على القضاء المطالب بتحمل المسؤولية كرافعة في مهمة استعادة الدولة المخطوفة، خصوصاً أن ما رشح عن القاضي صوان تصميمه على المتابعة التي من شأنها أن تفضي إلى صياغة أبرز تجربة قضائية، سيتوقف على نجاحها نهوض القضاء المستقل. وثانيها الجهات الحقوقية وبالأخص نقابة المحامين في بيروت صاحبة التاريخ كحارسٍ للحرية، وهي اتخذت صفة الادعاء ممثلة حقوق أكثر من ألف من أسر الضحايا والمتضررين. وثالثها استعادة حركة الناس الذين لم يتراجعوا لحظة عن شعار رفعوه بوجه تخاذل السلطة من اللحظة الأولى قبل 167 يوماً، والتخاذل مستمر حيال المسؤولية عن المدينة التي تهدمت وتشرد أهلها، وهو: لن ننسى ولن نسامح ونريد الحقيقة والعدالة.