IMLebanon

العدالة مدخل تحرير الدولة وإنجاز الاستقلال الرابع!

 

كأن لبنان عشية معركة شعبية مدنية لانتزاع الاستقلال، وهذه المرة من سيطرة النظام الإيراني، لأن في ذلك حماية الوجود والكيان واستعادة الجمهورية، ومنع مخطط جعل البلد مجرد مساحة جغرافيا أو مجرد أرض بلا شعب، فيكون الاستقلال الرابع على التوالي منذ استقلال العام 1943 عن الانتداب الفرنسي، واستقلال العام 2000 بهزيمة المحتل الإسرائيلي، إلى استقلال العام 2005 بإخراج جيش احتلال النظام السوري.

يدفع إلى هذه الوجهة ممارسات من نوع الإصرار على اختطاف الدولة المنهوبة بالسلاح بعد الفساد، بحيث فُقدت الشرعية، وشُلت السلطات وعمّ الهريان والتآكل الإداري، ولا قعر للانهيار الاقتصادي والنقدي والاستشفائي والمعيشي نتيجة محاصصة الفاسدين واستئثار الدويلة! وصولاً إلى التعامل مع جريمة العصر في تفجير المرفأ وبيروت كأنها مجرد حادث! لقد روّعت الجريمة العالم إلاّ منظومة الحكم المتشبثة بالكراسي لم تتأثر! وهكذا كما كان يتم في تقييد الجرائم الكبرى التي ضربت لبنان ضد مجهول، يضغطون لأن يجهّلوا المسؤولية عن التفجير الهيولي الذي دمر المرفأ وثلث العاصمة، وكشف عن حجم استخفاف المتسلطين بأرواح المواطنين وبالمستقبل وبأحلام الناس؟ وكم تبدو الفجوة سوداء مع التهديد بضياع العدالة.

إنه منحى لا يقيم وزناً للعدالة، يبرز في القمع المفرط الأمني والقضائي بوجه ثوار تشرين، كما في أبعاد القرار الخطير لمحكمة التمييز بإقصاء القاضي فادي صوان عن ملف تفجير المرفأ. ردة الفعل الغاضبة لأهالي الضحايا والمتضررين الذين نزلوا إلى الشارع اختصرت بعبارات مثل: «لن نسمح لهم بقتلنا مرتين»، و«لا تدفعونا لتحقيق العدالة بأيدينا»! ومع مواقف سياسية راوحت بين الصمت أو الزعم بـ«أخطاء» وقع فيها المحقق العدلي، التقت كل المواقف الشعبية ووسائل الإعلام على اتهام «منظومة النيترات» بأن خطتهم تقتضي العودة بالتحقيق إلى نقطة الصفر، لأن قرار الإبعاد الركيك الحجة، وفق رجال القانون، ما هو إلاّ استجابة للضغوط السياسية الهادفة إلى الالتفاف على العدالة، وتضييع الحقيقة بهدف منع المحاسبة، بخلاف ما ذهب إليه المحقق العدلي من منحى رافضٍ للمساومة أو المشاركة فيها.

في كلِّ هذا المسار، يبدو موقف «حزب الله» الأكثر تأثيراً، لا بل هو يحدد المنحى الجديد. فبعد إعلان أمينه العام غداة جريمة التفجير، أن لا معرفة له حتى بما كان في المرفأ (…)، لأن اهتمامهم منصب على مرفأ حيفا وما بعد حيفا، يظهر الموقف الفعلي المنسجم مع حملة المنظومة الحاكمة، وربما الموجه لها، لـ«ضبط التحقيق» وتقييده. فيعلن نصر الله يوم الثامن من يناير (كانون الثاني): «إذا هذا الملف يا جناب المحقق العدلي ستكمل فيه بهذه الطريقة معناته ما واصلين لأي نتيجة… مطلوب تصحيح المسار في التحقيق». والحقيقة أن كثيرين تناولوا التحقيق من موقع «المرجعية» القضائية نُصحاً للقاضي وتوجيهاً له، ليعود الأمين العام ويعلن يوم 16 فبراير (شباط) أنه آن أوان طي الملف: «التحقيق الفني لدى الجيش انتهى وأرسل إلى المحقق العدلي، ومن واجبه أن يعلن الجانب الفني…»، مشدداً على حلِّ ما اعتبره المسألة المحورية في إنهاء الإشكالية العالقة بين الأهالي المتضررين وشركات التأمين التي تنتظر تحديد طبيعة الانفجار كي تدفع! نعم الحل بتعويضات مالية، فقد أعاد التحقيق الفني الأمر إلى القضاء والقدر بأن «التلحيم» وإهمال شراراته هو ما فجّر بيروت!

إذا كان التحقيق الفني هو المرجع وتحقيق الضابطة العدلية ينبغي أن يعتمد كأساس ونهاية، فلماذا وجدت العدلية ولماذا وجد القضاء؟ لكن مهلاً، كانت هناك مجموعة من القضايا أقلقت «منظومة النيترات» فشكلت الإشارة إلى قرار الإبعاد، الذي مع نشر مخالفة القاضي فادي العريضي ورفضه الإقصاء انكشفت الحجج الضعيفة المسوقة ضد القاضي صوان من جهة، فيما كشفت الاستنابات والتوسع بالتحقيق عن الجانب الآخر.

أخذوا على القاضي صوان قوله إنه سيفعل أي شيء لكشف الحقيقة، ولن يتوقف عند أي حصانة أمام هول الكارثة البشرية والدمار، بل سيكون حازماً لأن حصانة الدم هي ما يؤرقه، وليس في الأمر من تجنٍ، وقد اعتبر القاضي العريضي في مخالفته أن التطرق إلى «الحصانات» جاء في سياق «عموميات تفترض ملاحقة أي شخص طبيعي أو معنوي تتوافر شبهات جدية بحقه». أي أنهم أخذوا عليه تصميمه على كشف الحقيقة من دون الخوف من اتهام. هنا انكشف جانب مهم مما دار في محكمة التمييز مع البحث بـ«الحصانات» الواسعة، إذ رسم القاضي صوان الإطار لتضييقها لمصلحة حماية حقوق الإنسان، كي لا تستمر كممر مفتوح للإفلات من الحساب، وما أكثر الأدلة، فبعد كل النهب والإفقار واللصوصية، وواقعياً ثبوت التهم على منظومة الحكم فانكفأت عن الفضاء العام، وما من جهة دولية تأتمنها على كرتونة إعاشة، لم توجه تهمة لمسؤول واحد على أي مستوى… فكان قرار المحكمة بالأغلبية «الانسجام» مع الإيحاءات السياسية، والتمسك بالمحاكم خاصة لدرء محاسبة المتهمين بالكبائر، على حساب العدالة والحقيقة والمجتمع ومصالحه! ولم يعبأ من اتخذ القرار بتداعياته على القضاء وأولوية معركة تحقيق استقلاليته.

وما يرقى إلى مستوى الفضيحة، أنهم أخذوا على الرئيس صوان أنه من المتضررين مادياً بالتفجير، فافترضوا أنه سيتعاطف مع المتضررين ويتخلى عن حياديته! وكأن الحياد يقتضي ألا يكون القاضي معنياً بالكارثة وهول ما جرى. ببساطة هذا يعني استحالة وجود قاضٍ لم يتأثر بما ضرب كل لبنان، ومستقبلاً في محاكمات حتمية في قضايا المنهبة سيكون عندها من المستحيل العثور على قاضٍ لم يتضرر.

طبعاً الادعاء على رئيس الحكومة ووزراء (بينت التحقيقات وجود شبهات جدية حولهم)، أقلق المنظومة السياسية فانقضت على التحقيق شاهرة سيف الحصانات. لكن المفاجأة الأبرز التي عجلت قرار الإقصاء تمثلت في التجرؤ على إصدار الاستنابات بحق مقربين من رأس النظام السوري مشتبه بأنهم الجهة المالكة لشحنة الموت! ومن اللحظة الأولى بدت الاستنابات أشبه برأس الخيط لتحديد من هم السياسيون والأمنيون أصحاب المسؤولية عن الحبكة السينمائية من تفريغ النيترات وتخزينها وحراستها كما إغراق الباخرة وإخراج نحو 75 في المائة من تلك الشحنة على دفعات وإلى أين؟ وأظهر التوسع في التحقيق إمكانية كشف ملابسات جرائم خطيرة مرتبطة بالتفجير، كمقتل العقيد المتقاعد من الجمارك منير أبو رجيلي، والمصور الصحافي جو بجاني، الذي كشفت أرملته أنه إبّان التعازي، استولت الأجهزة على أرشيفه المصور، وبينها صور «العنبر رقم 12»، واللافت أنهم في البحث «أفرغوا المخدات (…) وكأننا نحن الجناة ولسنا الضحية»!

من نهج التجويع والتحالف مع الوباء والسطو على اللقاح وانفلات القمع ضد متظاهرين سلميين إلى التربص بالعدالة، وعودة الاغتيالات واستحضار «داعش»على الطلب، إلى ما يعدُّ لتعيين رئيس للجمهورية يكمل شغور الموقع ويرسخ التبعية، يريدون زرع الخوف وتعميم الترهيب! ووضوح الأهداف لا بد أن يبلور سبل الردع، فراية العدالة هي عنوان جامع لجبهة سياسية من دعاة التغيير. والعدالة هي مدخل استعادة الدولة كي تستعاد الحقوق والمال المنهوب، وعنوان التفاف العالم حول اللبنانيين لإنهاء الاستبداد.